سادة التجسس الإلكتروني العرب
لقد كانت تونس-بن علي من أشد الدول العربية ممارسة لعمليات التجسس والرقابة الإلكترونية تليها سوريا. والآن تتصدر القائمة دولاً مثل السعودية والإمارات ومصر. وللمفارقة فإن برامج التجسس تطورها شركات تعمل في دول ديمقراطية الأمر الذي يظهر نفاق الغرب.
Kuwaitis place signs on the lawn as they gather outside the National Assembly building in Kuwait City on September 29, 2018, in protest against the government's new censorship regulations on publications, which resulted in banning many books from entering the country. (AFP)

تتواتر الأخبار التي تتحدث عن فضائح بعض الحكومات العربية -مثل الحكومة السعودية والإماراتية– حول عمليات التجسس والرقابة الإلكترونية التي لا تنال فقط مواطنيها الذين ما زالوا على أراضيها أو الذين غادروها خوفاً على سلامتهم الشخصية، بل أيضاً تطال مواطنين لدول أخرى مثلما كشفت عنه مؤخراً وكالة رويترز في تقرير لها حول قيام السلطات السعودية باختراق هاتف "جيف بيزوس" مالك صحيفة "واشنطن بوست" والتجسس عليه، وذلك بسبب دور صحيفته في تغطية أحداث اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول نهاية العام الماضي، والذي كان ضحية عملية مراقبة وتجسس قامت بهما الرياض من خلال برنامج تجسس يُدعى بيغاسوس 3 اشترته من شركة NSO الإسرائيلية.

في ظل هذه الفضائح علينا أن نتذكر بأن هذه الانتهاكات التي تقوم بها الحكومات العربية وتمس حقوق الناشطين السياسيين المدنية والإنسانية، وتخضعنا جميعاً للمراقبة على مدار الساعة، وتحرمنا بالتالي من حرية التعبير، وتعرّضنا لخطر الاعتقال والتعذيب والإخفاء، إنما تتم بمساعدة الغرب الذي يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.

إن المواطن العربي ضحية عملية انتهاك مزدوجة؛ فهو من جهة يخضغ لانتهاك مباشر من حكومات بلاده عبر عمليات التجسس والمراقبة الإلكترونية هذه، ويخضع من جهة أخرى لاستغلال مقنّع من الشركات الرأسمالية الغربية التي تعمل على إنتاج البرامج المتخصصة في المراقبة والتجسس، والتي تقوم ببيعها لتلك الحكومات السلطوية من غير أن تراعي استخداماتها وآثارها الضارة على المواطنين مقابل عقود بمئات الملايين من الدولارات.

إن ما يهم هذه الشركات من انتاج هذه البرمجيات هو الربح في المقاوم الأول، وأن تتم عقود البيع، تالياً، وفق شروط التصدير المتبعة في دولهم حتى لا يتعرضوا لمساءلات قانونية تحرمهم من هذا الربح. أما السؤال حول كيفية استخدام هذه البرمجيات من قبل عملائهم –وهم الحكومات العربية هنا– فالأمر لا يعنيهم. وهنا يكمن ما يمكن اعتباره نفاقاً.

الانتهاكات التي تقوم بها الحكومات العربية وتمس حقوق الناشطين السياسيين المدنية والإنسانية إنما تتم بمساعدة الغرب الذي يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.  

إقبال بن قايد حسين

وهذه الظاهرة –أي التجسس والمراقبة الإلكترونية- ليست بالجديدة في الوطن العربي، بل هي قديمة منذ أن بدأت تكنولوجيا المعلومات تتسلل إلى الدول العربية؛ غير أنها تصاعدت مع "الحرب الكونية على الإرهاب" التي بدأتها الولايات المتحدة إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

فتحت ذريعة محاربة الإرهاب، سُمِحَ للحكومات العربية بالحصول على برمجيات تجسس دقيقة، وذلك للمساهمة في دعم الحكومات الغربية في عمليات تعقب "الإرهابيين" المطلوبيين للحكومات الغربية على وجه التحديد. لقد غدا التعاطي مع العالم العربي من منظور أمني بحت، وتوارت اعتبارات الخصوصية الفردية والديمقراطية خلف الاعتبارات الأمنية.

لنأخذ، على سبيل المثال، كيف باعت الشركة البريطانية العملاقة BAE Systems أحد أبرز أنظمة التجسس المسمى Evident إلى العديد من الحكومات العربية منها تونس، والإمارات، والسعودية، وعمان، والبحرين، والجزائر، والمغرب.

لقد قامت الشركة الدنماركية ETI بتطوير هذا البرنامج الذي أصبح ملكاً للشركة البريطانية بعد عملية استحواذ قامت بها BAE Systems لشركة ETI. ويعمل برنامج Evident على تمكين الحكومات من إجراء عمليات مراقبة وتجسس شاملة على اتصالات مواطنيها.

لقد كشفت شبكة BBC في تحقيق لها في عام 2017 كيفية عمل هذا البرنامج من خلال مقابلة أحد العاملين السابقين في الشركة ممن كان لهم دور في تطوير هذا البرنامج، حيث قال: "ستكون أيّة حكومة قادرة على اعتراض أيّة حركة عبر الإنترنت. وإذا أرادت القيام بالمراقبة عبر أراضي الدولة بأكملها، فيمكنها القيام بذلك. ويمكنها أيضا تحديد موقع الأشخاص استنادًا إلى بيانات أجهزتهم الذكية. كما يمكنها متابعة الأشخاص من حولهم. كما أن البرنامج يعد متقدماً في خدمة التعرف على الصوت، وعملية فك التشفير".

إن المواطن العربي ضحية عملية انتهاك مزدوجة فهو يخضع لانتهاك مباشر من حكومات بلاده عبر عمليات التجسس والمراقبة الإلكترونية ويخضع لاستغلال مقنّع من الشركات الرأسمالية الغربية.

إقبال بن قايد حسين

تعتمد برامج التجسس على تكنولوجيا تعرف بـ DPI وهي اختصار لـ Deep Packet Inspection أي الفحص الدقيق للعينات، وهي التكنولوجيا التي طُورت في شركات موجودة في بعض الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة خصوصاً تلك التي تتخذ من وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا مقراً لها.

لقد أثبتت الكثير من الدراسات والتقارير اعتماد الحكومات العربية على هذه الشركات في امتلاكها لبرامج التجسس؛ فالسلطات المصرية إبان حكم حسني مبارك استخدمت تكنولوجيا DPI التي اشترتها من شركة Narus الأمريكية للتجسس على النشطاء المصريين في ذروة الاحتجاجات عام 2011. لقد امتلكت الحكومة المصرية أحد أهم البرمجيات التجسسية التي طورتها هذه الشركة ويُدعى NarusInsight، وهو برنامج يقوم بتزويد مشغلي الشبكات والأمن بالقدرة على الحصول بإدراك متكامل وآني بجميع العمليات التي تعبر من خلال شبكاتهم في أي ظرف كان.

وللمفارقة، فقد فازت الشركة بجائزة من وزارة الأمن الداخلي الأمريكية في عام 2010 في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تحث السلطات المصرية على زيادة الإصلاحات الديمقراطية. ليس هذا وحسب، فقد أظهرت تقارير أن السلطات المصرية كانت قد اشترت أيضاً برنامجاً يُدعى FinFisher الذي طورته شركة بريطانية تُدعى Gamma International UK Ltd.

وربما تطول قائمة الشركات التي اعتادت أن تبيع برمجيات التجسس إلى الحكومات العربية. فهذه القائمة تضم أيضاً –علاوة على ما ذُكر– كلاً من شركة Websense، و Blue Coat، و Palo Alto Networks، وIntel’s McAfee، و SmartFilter والشركة الكندية Netsweeper.

لقد أظهرت هذه الشركات، وعلى مدى أكثر من عقد من الزمان، أنها غير معْنية كثيراً بالكيفية التي تُستخدم فيها برمجياتها من قبل حكومات مستبدة مثل الكثير من حكومات العالم العربي؛ فمع أن بعض هذه البرمجيات تم تطويرها في الأساس لمراقبة الإعلانات المخلة بالآداب على شبكة الإنترنت، إلا أن استخدامها على المستوى الوطني من قبل هذه الحكومات ضد الناشطين السياسيين قد حرف هذه البرمجيات عن استخداماتها الأصلية.

وبالرغم من أن هذا الاستخدام يتنافى مع مبادئ الديمقراطية التي تدعيها هذه الشركات أو الدول العاملة على أراضيها إلا أنها لم تتخذ إجراءات تردع الحكومات العربية عن استخدام برمجياتها ضد النشطاء السياسيين المطالبين بالديمقراطية.

وكان تقرير لمبادرة Open Internet Initiative قد أظهر أنه منذ انطلاق موجة الربيع العربي أواخر 2010 وحتى مارس/آذار 2011 استطاعت حكومات قطر وعمان والسعودية والكويت واليمن والسودان وتونس أن تحرم 20 مليون مستخدم للإنترنت من الولوج إلى مواقع ذات محتوى سياسي معارض باستخدام برمجيات تم تطويرها من شركات في الولايات المتحدة.

لقد عرف العالم العربي حكومات مارست أشد أنوع الرقابة على الإنترنت، ولكن لم يمنع ذلك من سقوطها؛ كانت تونس إبان حكم ابن علي من أشد الدول العربية استخداماً لبرمجيات الرقابة، تأتي بعدها سوريا، ومع ذلك ثارت الشعوب ضد أنظمتها السلطوية والقمعية. والآن تتصدر كل من السعودية والإمارات ومصر قائمة الدول العربية الأشد ممارسة للتجسس والرقابة الإلكترونية. ولكن يبقى السؤال هل ستجدي نفعاً الرقابة الإلكترونية في ظل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ترتكبها هذه الحكومات في الحفاظ على ديمومة سلطتها؟

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي