خط غاز "نورد ستريم 2".. معركة لم تُحسَم بعد بين روسيا وأمريكا
وسط سلسلة من الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا منذ قدوم بايدن إلى البيت الأبيض، بداية من الاتهامات الموجهة لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى التوتر الناتج من التصعيد العسكري الروسي في شرق أوكرانيا.
مسار خط أنابيب نورد ستريم 2 قيد الإنشاء يظهر كخط أخضر منقط. (الصورة مأخوذة من موقع constructioneurope) (Others)

مروراً بالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التي فرضتها إدارة بايدن على روسيا بسبب الهجمات الإلكترونية على بعض المؤسسات الأمريكية، تأتي أزمة خط أنابيب الغاز "نورد ستريم2" لتمثل نقطة فاصلة في مسار العلاقات بين الجانبين في فترة إدارة بايدن.

فبعد عام ونصف العام من العقوبات التي فرضها ترمب على الشركات المشاركة في إنشاء خط الغاز الروسي لا زالت أزمة الخط قائمة دون الوصول إلى تفاهمات أو حلول، ولا زالت الأزمة عالقة داخل الإدارة الأمريكية الجديدة ما بين فرض مزيد من العقوبات على الخط وتأجيج التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، أو تعليق العقوبات وفتح نافذة للحوار وتهدئة العلاقات بين الجانبين.

يستطيع خط "نورد ستريم2" الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق متخطياً أوكرانيا التي يمر من خلالها أغلب الغاز الروسي إلى أوروبا، أن ينقل سنوياً 55 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي (1.9 تريليون قدم مكعب).

وتصل تكلفة الخط إلى 11 مليار دولار، وعلى الرغم من أن الخط اكتمل إنشاؤه بنسبة 95% منذ أواخر 2019 فإن العقوبات التي فرضها ترامب وملاحقة إدارة بايدن للشركات التي لا زالت تعمل في الخط أدت إلى توقف استكمال الخط، وانسحاب عدد كبير من الشركات العالمية المشاركة في إنشائه، والتي تمتلك تكنولوجيا إنشاء هذا النوع من خطوط الغاز في مياه البحار.

التخوفات الأمريكية من الخط لا تتعلق بمجرد الصراع مع الجانب الروسي أو التوترات القائمة بين الطرفين، ولكن يأتي في مقدمة التخوفات إدراك أمريكا لاستخدام بوتين للغاز الطبيعي وسيلةً سياسية وأداة لتمدد النفوذ الروسي داخل أوروبا.

ولا تستطيع الذاكرة الأمريكية وكذلك الأوروبية أن تنسى استخدام روسيا للغاز الطبيعي سلاحاً وورقة ضغط على أوروبا خلال النزاع الروسي الأوكراني في عام 2014، عندما هددت روسيا بقطع إمداداتها من الغاز الطبيعي عن أوروبا، ومنذ ذلك الحين اعتمدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة لأمن الطاقة الأوروبي ترتكز على تنوع مصادر وواردات الغاز الطبيعي، بما يحد من سيطرة الغاز الروسي على الأسواق الأوروبية التي وصلت إلى نحو 40% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي لأوروبا في عام 2018.

ويمكن من خلال هذه الاستراتيجية تفهم الدعم الأمريكي والأوروبي للتعاون والتنسيق في استثمارات الغاز الطبيعي بين دول شرق المتوسط كبديل يمكن أن يوفر جزءاً من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي. الاستراتيجية الأمريكية لا تقتصر فقط على تحجيم النفوذ الروسي داخل أوروبا، ولكن البعد الاقتصادي حاضر بقوة، حيث تسعى أمريكا، وهي الآن من أكبر منتجي الغاز الطبيعي عالمياً، لاقتحام السوق الأوروبية من خلال تصدير الغاز المسال كأحد البدائل عن الغاز الروسي.

هناك مجموعة من التحديات والصعوبات التي تقف عائقاً أمام الوصول إلى حلول لأزمة الخط، وتجعل من حسم معركة "نورد ستريم2" أمراً ليس باليسير على الإدارة الأمريكية، لا سيما أن الأزمة لا تتعلق بروسيا فقط إذ تتقاطع كل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي مع الأزمة.

فعلى الرغم من وجود دعم من الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل الكونغرس الأمريكي لفرض مزيد من العقوبات على المؤسسات المشاركة في إنشاء الخط، فإن هناك اتجاهاً لعدم فرض عقوبات جديدة، والوصول إلى تفاهمات في ظل رغبة أمريكية في إعادة إصلاح العلاقات مع ألمانيا، بعد أن أصابها التوتر والاضطراب خلال فترة رئاسة ترامب، لاسيما أن الإدارة الأمريكية الجديدة تضع في مقدمة أولوياتها ترميم العلاقات العابرة للأطلسي.

بالإضافة إلى ذلك، تواجه الإدارة الأمريكية تحدياً آخر في طبيعة علاقتها مع روسيا، التي تحتاج إلى توازن دقيق يحقق الردع على المدى القصير لسياسة بوتين العدائية، وفي نفس الوقت يحافظ على وجود تعاون قائم معها على المدى الطويل، ويضمن عدم تحولها إلى المعسكر الصيني في وقت تحشد فيه أمريكا كل الدول الغربية وحلفائها لمواجهة الصعود الصيني.

على الجانب الآخر، من الصعب تصور استجابة ألمانيا لإيقاف الخط الذي وصلت تكلفته إلى 11 مليار دولار، ويمكن مع هذه التكلفة الضخمة تصور التخوفات الألمانية من التعويضات المادية والتداعيات القانونية الناتجة من توقف استكمال الخط، ولا تنحصر أزمة ألمانيا في خط "نورد ستريم2" مع أمريكا فقط، ولكن أيضاً مع الإتحاد الأوروبي الذي يرى الخط خطأ جيوسياسياً وتهديداً لأمن أوروبا، واستمراراً لاعتمادها على الغاز الروسي وتمدداً للنفوذ الروسي داخل أوروبا، في وقت تحتاج فيه أوروبا إلى التماسك في مواجهة التوسعات والأطماع الروسية في أوكرانيا، وتحتاج فيه ألمانيا إلى الحفاظ على قيادتها للاتحاد الأوروبي.

بطبيعة الحال من الصعب أن تتنازل روسيا عن مواصلة مساعيها في استكمال إنشاء الخط، حيث يعتمد الاقتصاد الروسي بشكل رئيسي على إيرادات صادرات الغاز والنفط، ويرفع الخط من حجم المكاسب الاقتصادية الضخمة التي تتحصل عليها روسيا والتي جعلتها في مقدمة مصدري الغاز عالمياً، وأيضاً في ظل الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا يقدم الخط فرصة لروسيا لتجنب مرور صادراتها من الغاز في الأراضي الأوكرانية، ما يعني حرمان أوكرانيا من رسوم مرور الغاز الروسي عبر أراضيها واستمرار تمدد النفوذ الروسي داخل أوروبا.

لا يبدو من حجم التحديات التي تواجه أطراف أزمة خط "نورد ستريم2" أن أياً من سياسة العقوبات الأمريكية أو السياسة الروسية والألمانية الساعية لاستكمال الخط ستحقق أهدافها دون خسائر أخرى ليست بالقليلة، وهو ما يعني أن التوقف عن فرض مزيد من العقوبات الأمريكية والتوقف عن استكمال بناء الخط يمكن أن يقود إلى تفاهمات وتسوية بين جميع الأطراف، وهو أمر يصعب تصوره في الوقت الحالي نتيجة التوترات التي أحدثتها الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة، لكنه يظل طرحاً قائماً في المستقبل القريب حيث لا يصطدم مع مصالح أطراف الأزمة. وفي نفس الوقت وبغض النظر عن أزمة "نورد ستريم2" سيظل هناك أمران رئيسيان تسعى إليهما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهما العلاقات القوية والموقف الموحد تجاه روسيا، وإيجاد حلول طويلة الأجل تضمن تنوع إمدادات الطاقة لأوروبا بعيداً عن مصادر الطاقة الروسية.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.


TRT عربي