تونس.. إلى أي مستقبل مجهول؟
مما لاشك فيه أن تونس تسير نحو المجهول، وأصبح المستقبل غامضاً. إلا أن رئيس الدولة حريص فقط على الاستجابة لمطالب المجتمع الدّولي بتسقيف الإجراءات الاستثنائيّة وتحديد خارطة طريق وضبط رزنامة الاستحقاقات القادمة.
قيس سعيد (الرئاسة التونسية)

لكنّ مضمون خارطة الطّريق التي وقع الإعلان عنها يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 كانت تواصلاً لنفس الإصرار على فرض خيارات فرديّة تحت غطاء الإجراءات الاستثنائيّة دون تفويض شعبيّ أو سند دستوري أو قانونيّ عدا التأويل المتعسّف للفصل الثّمانين من الدّستور يوم 25 يوليو/تموز 2021 الذي كان مدخله لإحداث تغييرات جوهريّة في المشهد السّياسي ومنظومة الحكم وإسناد صلاحيّات مطلقة لنفسه غير قابلة للطّعن.

واعتبر الإجراءات المعلن عنها تصحيحاً لمسار الثّورة بل تصحيحاً لمسار التّاريخ برمّته وكعادته في خطبه عرّج على معارضيه واتّهمهم بتهريب الأموال والتّخابر مع دول أجنبيّة على حساب السّيادة الوطنيّة وتحريضهم لهذه الدّول على قطع المساعدات عن تونس، كما عرّض بأكبر منظّمة نقابيّة في البلد معلناً عن موقفه الرّافض لما أعلنت عنه من خطّ ثالث، وشمل التّعريض عدداً من الأطراف السّياسيّة التي كانت مساندة له والتي أخضعها على حدّ قوله لعمليّة فرز تاريخيّ لاختبار مدى صدقها وولائها واعتبر أنّهم "كانوا طامعين في المناصب والحقائب وحين يئسوا انقلبوا على أعقابهم".

خارطة الطريق أدت لتعميق الأزمة

وتتأّلّف هذه الرّزنامة المعلن عنها من سبع نقاط ليس بينها إجراء يتعلّق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردّي، وتتمثل بإبقاء البرلمان معلقاً أو مجمّداً لحين إجراء الانتخابات التّشريعيّة دون التّنصيص على الانتخابات الرّئاسيّة، وتنظيم استشارة شعبية في الدّاخل والخارج يقع بلورة أسئلتها وذلك بداية من 1 يناير/كانون الثاني 2022 إلى حدود 20 مارس/آذار 2022 من خلال منصّات الكترونيّة ومباشرة في المعتمديّات.

بالإضافة إلى تشكيل لجنة لجمع المعطيات المستخرَجة من الاستفتاء والتّأليف بينها لتحديد معالم الإصلاحات التي يريدها الشّعب وذلك قبل موفّى يونيو/حزيران 2022 مع عرض مشاريع الإصلاحات الدّستوريّة المتولّدة عن الاستشارة/الاستفتاء وكذلك المتعلّقة بالعمليّة الانتخابية في موفّى 25 يوليو/تموز 2022، للوصول إلى تنظيم انتخابات تشريعيّة يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2022 بمرسوم القانون الانتخابيّ الجديد، ووضع مرسوم خاصّ للصلح الجزائيّ يقع فيه ترتيب المورّطين في الفساد (الأكثر فساداً يستثمر في الجهات الأكثر فقراً) كشكل من أشكال استعادة الدّولة الأموال المنهوبة من طرف رجال الأعمال الفاسدين قبل الثّورة.

وأخيراً محاكمة من يُقدّر أنّهم قد أجرموا في حقّ البلد وتوجيه تحذير مشدّد للقضاء ليقوم بدوره في هذا الشّأن وقد تعهّد سابقاً بإصدار مرسوم لتسريع الآجال القانونيّة للتّقاضي.

وقد كانت هذه الإجراءات دون انتظارات مناصريه قبل خصومه، إذ كان أنصاره يتوقّعون إجراءات وصفها الإعلام بالزّلزال من قبيل حلّ البرلمان وحلّ المجلس الأعلى للقضاء وحلّ حزب حركة النّهضة واعتقال قياداته، بينما أمل معارضوه أن يتراجع عن سياسة الانفراد بالقرار ويقبل بالتّحاور مع السّاحة السياسيّة والمدنيّة لبلورة خارطة طريق تخرج البلد من عزلته وأزمته الاقتصاديّة التي تكاد تضع البلد على مشارف الإفلاس والانهيار.

تبدو هذه الإجراءات مرتجلة ومجرّد استجابة لضغوطات الخارج وخاصّة الدّول المانحة والضّامنة وصناديق الإقراض والتّمويل، لكنّها كانت بدون تصوّر عمليّ وإجرائيّ جدّي قابل للتّنزيل في الواقع في كنف الشّفافية الضّامنة لشروط العمليّة الدّيمقراطيّة التي تعكس إرادة الشّعب الحقيقيّة.

معالجة مكامن الداء كانت أولى

لا أحد يمكن أن يتكهّن بمستقبل البلد في ظلّ معطيات مثيرة للقلق، تتمثل في إصرار رئيس البلد على إنفاذ مشروعه وفرض إرادته عبر المراسيم التي اتّخذها بديلاً عن القوانين التي تصادق عليها المؤسّسة التّشريعيّة المجمّدة، مع رفض أيّ شكل من أشكال الحوار مع أيّ طرف وطنيّ بما في ذلك من ناصروه.

مع توسّع دائرة المعارضة لهذا الخيار وتصاعد أشكال التّعبير عن الرّفض مع إمكان التقاء المعارضين ضمن جبهة موحدة.

إضافة لخطورة الوضع الاقتصادي في ظلّ حصار مالي غير معلن من طرف الدّول المانحة وصناديق التّمويل والإقراض بما ينذر بتفجّر للوضع الاجتماعي في ظلّ تواصل الأزمة.

في ظل تواتر الحديث عن وجود رهان دولي على البلد بين حلف أمريكي من جهة وحلف روسي فرنسي من جهة أخرى، فيما يشبه الحرب الباردة، حول الوضع في ليبيا.

ولعلّ أكثر ما ينذر بالخطر تبعاً لكلّ ذلك هو ما يحدث من شروخ وتفكّك للنّسيج الاجتماعي رغم التّجانس الدّيني والمذهبي والعرقي الذي يتمتّع به البلد.

هل يجدي الاستفتاء فتيلا؟

فماذا يعني استشارة شعبيّة إلكترونيّة واستفتاء إلكتروني في بلد بنيته التّحتيّة السّيبرانيّة ومنظومته الإعلاميّة وشبكات الانترنت فيه لا تغطّي نصف البلد بالشّكل المطلوب؟

بل كيف يقع ضمان شفافيّة هذا الاستفتاء والحال أنّ الجهة المنظّمة له هي نفسها جهة القرار والإشراف وجمع المعطيات وتحليلها واستخراج الإصلاحات التي ستشكّل دستوراً جديداً وطرحه للاستفتاء من جديد في وضع صارخ لتضارب المصالح وتداخلها؟

أليس في ذلك إعدام للهيئة العليا للانتخابات التي راكمت تجربة وتقاليد في تنظيم الانتخابات وضمان شفافيّتها ونزاهتها بفضل ما توفّر لها من منظومة قانونيّة وموارد بشريّة مدرّبة تقوم بأدوار ترتيبيّة ورقابيّة فضلا عن الملاحظين من مختلف مكوّنات المنتظم الحزبي والمدنيّ ؟

أين كلّ ذلك من استشارة واستفتاء افتراضيين على منصّة الكترونيّة ؟

ألا يعدّ ذلك تراجعاً عن مكتسبات صنعت الاستثناء التّونسي وارتكاساً لتراتيب لم تعهدها حتّى الدّكتاتوريّات التقليديّة؟

كلّ المعطيات تشير إلى أنّ المسألة لا تعدو أن تكون محاولة لإضفاء شرعيّة شعبيّة على منظومة جاهزة بشكل مسبق سواء على مستوى الدّستور أو القانون الانتخابي أو منظومة الحكم التي أعلن عنها الرّئيس، إذ أعلن الرّئيس مرّات عن تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للبلد مقابل دستور الثّورة الذي اشتغل على صياغته مجلس تأسيسيّ منتخب قضّى ثلاث سنوات بين حوارات ونقاشات شارك فيها كلّ الطّيف السياسي والمدني بمنظماته وجمعياته وخبرائه ونخبه وأكاديميّيه، وشهد مداولات لم تخل من سجالات حادّة أفضت إلى توافقات ومصادقة بأغلبية تصل إلى حدّ الإجماع على الصّياغة النّهائيّة.

فكيف يمكن الاستعاضة عن كلّ ذلك بوثيقة تصوغها قلّة منصَّبة يستفتى عليها بوسائل غير شفّافة لتكون تعاقداً جامعاً بين أفراد الشّعب ومكوّنات المنظومة الوطنيّة ضامناً للحقوق والحريّات والسّلم الأهلي؟

أزمة الطبقة السياسية والتيار الاسلامي

هي أزمة شرعيّة دستوريّة وقانونيّة وأزمة مشروعيّة سياسيّة ستضع فيها هذه الإجراءات بلداً يفترض أنّه طلّق الدّكتاتوريّة ونظام الحكم الاستبدادي إلى الأبد بعد ثورة الحريّة والكرامة التي اندلعت 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وتوجّت 14 يناير/كانون الثاني 2011 برحيل الدّكتاتور وانطلاق مسار انتقال ديمقراطي مهما كانت تعثّراته ومواطن فشله ومحاولات إجهاضه من الدّاخل والخارج.

مقابل كلّ ذلك لا تزال الطّبقة السياسيّة في حالة تردّد وانقسام وتشتّت رغم المزاج العامّ الرّافض لهذا التمشّي وتوسّع دائرة معارضيه، ولا يزال الإسلام السّياسيّ ممثّلا في حركة النّهضة بالنّسبة إلى عدد من مكوّنات الطبقة السياسيّة والنّخب الفكريّة عقدة المنشار في الحياة السّياسة التّونسيّة بسبب الاختلاف حول موقعه في أيّ تسوية سياسيّة ممكنة سواء في ظلّ الانقلاب أو في حال سقوطه، إسلام سياسيّ لم يغادر مربّعات الحكم سواء كان في الحكومة أو في دوائر التّأثير في الحكم فحُمِّل منفرداً كلَّ ما وقع من إخفاقات في ما سُمِّي بالعشريّة السّوداء التي كانت أحد عناصر الأسطورة التي قام عليها الانقلاب.

لو يستحضر هؤلاء أنّ ما يسمّونه بالإسلام السياسيّ ليس مجرّد حزب سياسيّ بل هو تيّار اجتماعيّ في البلد لا يمكن تجاوزه، عندها يمكن أن يتجاوزوا عقبات التوحّد لتشكيل جبهة وطنيّة مضادّة للعودة إلى زمن الاستبداد والحكم الفردي.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي