كان أحد أكبر الإحباطات التي واجهها الوزير إيتمار بن غفير، بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار هو تعثر مشاريع الاستيطان في شمال قطاع غزة، التي كان يروج لها مع آخرين، مستنداً إلى فكرة تهجير سكان المنطقة. هذه المخططات، التي دعمتها خطة الجنرالات القائمة على التهجير، أُحبطت بصمود سكان شمال غزة وتمسكهم بأرضهم ومنازلهم.
ومع ذلك، عندما طرح الرئيس ترمب أفكاره العشوائية حول تهجير الفلسطينيين من غزة، استعاد اليمين الصهيوني زخمه من جديد، وبدأ قادته يتحدثون مرة أخرى عن رؤاهم وكيفية مواءمتها لطروحات ترمب، سواء في ما يخص تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو من الضفة الغربية.
في الواقع ومع أن اليمين الصهيوني كان الأكثر استفادة من تصريحات ترمب حول التهجير فإن المجتمع الصهيوني كله رحَّب بأفكار ترمب. ورحب قادة المعارضة الإسرائيلية والمعروفين باسم معسكر الوسط في دولة الاحتلال الإسرائيلي بما طرحه ترمب، بمن فيهم يائير لابيد وبيني غانتس وأفيغدور ليبرمان، وهم قادة أبرز الأحزاب المعارضة للحكومة اليمينية في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
بالنسبة إلى الفلسطينيين لم يكن ترحيب مختلف المكونات السياسية لدولة الاحتلال الإسرائيلي بأفكار ترمب شيئاً جديداً؛ فقد قامت دولة الاحتلال بمختلف مكوناتها بالأساس على فكرة التهجير القسري عام 1948، وهذا الأمر جعل من التهجير أداة راسخة في الفكر الصهيوني من أجل تحقيق ما يدَّعيه من كيانيته واستقلاله.
لم تتوقف محاولات التهجير بعد نكبة 1948، إذ طرح الاحتلال الإسرائيلي عام 1953 خطة جديدة عُرفت بـ"خطة سيناء"، التي هدفت إلى ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء بدعم أمريكي. تلتها عام 1967، خطة إيغال ألون، التي سعت لتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، ثم جاءت خطة أرئيل شارون عام 1970، التي هدفت إلى نقل سكان غزة إلى العريش وسيناء، اللتين كانتا تحت الاحتلال الإسرائيلي آنذاك.
وفي الألفية الجديدة كان هناك ما لا يقل عن 4 أو 5 مشاريع للتهجير؛ منها مخطط "غيورا آيلاند" عام 2000 لإنشاء دولة فلسطينية في سيناء، وخطة ليبرمان لتشريد الفلسطينيين في الضفة الغربية عام 2014، مروراً بصفقة القرن عام 2017 التي شملت إلغاء حق العودة وتهجير الفلسطينيين إلى دول عربية، وصولاً إلى خطة ترمب 2025 التي سبقها الاحتلال بعمليات تهجير قسري في غزة منذ نهاية عام 2023 في غزة، وفي نهاية عام 2024 في جنين.
إلى جانب تغلغل فكرة التهجير القسري في العقلية الإسرائيلية، حظي معظم مشاريع التهجير بدعم أمريكي منذ بداياتها. ففي عام 1949، كلّفت وزارة الخارجية الأمريكية، خلال إدارة الرئيس هاري ترومان، الدبلوماسي جورج ماكجي بدراسة إمكانية ترحيل الفلسطينيين إلى سوريا والعراق، في تبنٍّ واضح لمشاريع صهيونية.
وعلى مدار العقود، من ترومان إلى كلينتون وصولًا إلى بايدن، تباين الدعم الأمريكي لأفكار التهجير الصهيونية، سواء من الناحية النظرية أو على أرض الواقع. ولم يكن هذا الدعم غائباً حتى في العقود الأخيرة؛ فقبل وصول ترمب إلى ولايته الثانية، حاول وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بفتح معبر رفح لتمكين الفلسطينيين من مغادرة غزة إلى مصر، وذلك بالتزامن مع بدء العدوان الإسرائيلي البري على القطاع أواخر عام 2023.
تصريحات ترمب حول التهجير لم تكن جديدة في السياسة الأمريكية الداعمة لمشاريع التهجير الصهيونية، لكنها حملت طابعه الخاص، الذي يعتمد على منطق الصفقات التجارية والقراءة المادية الاختزالية. فقد تعامل مع القضية كأنها مجرد مسألة توفير سكن وطعام وشراب، بغضِّ النظر عن المكان، متجاهلًا الأبعاد التاريخية والسياسية والإنسانية للصراع. هذا النهج يعكس إما جهلًا بالواقع وإما انحيازاً أعمى يَحول دون التعامل مع القضايا المعقدة بعقلانية ومنطقية.
رغم احتفاء اليمين الصهيوني بتصريحات ترمب حول تهجير الفلسطينيين من غزة، فإن هذا الحماس لن يطول. فسرعان ما سيدرك أن هذه الأفكار ليست فقط غير منطقية أو قابلة للتطبيق، بل إنه حتى تجنيد كل الموارد الممكنة لتنفيذها لن يغيِّر من واقع الأمر شيئاً. فحسابات المآلات ستُظهر لهم أن زعزعة الاستقرار الإقليمي ستشكل تهديداً أكبر على أمن إسرائيل نفسها، مما يجعل العوامل التي تعوق تنفيذ هذه الخطط كامنة في تداعياتها ذاتها.
ويؤكد التاريخ أن جميع مشاريع التهجير القسري التي حاول القادة الصهاينة تنفيذها، بدعم من الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد عام 1948، انتهت بالفشل. يعود ذلك إلى وعي الشعب الفلسطيني العميق وتمسكه بأرضه، وهو الأمر الذي تَعزَّز بعد تجربة النكبة.
كما لعبت المقاومة الفلسطينية دوراً محورياً في التصدي لهذه المخططات، متبنيةً سردية المواجهة ضد المشاريع الإسرائيلية التي تستهدف الإنسان والأرض والمقدسات، بغضِّ النظر عن مدى الدعم الذي تحظى به من القوى العالمية الكبرى.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.