بعد مأزقها في الضفة.. ما السيناريوهات الإسرائيلية المحتملة؟
تواجه إسرائيل تحدياً غير مسبوق، فهي تقف من جهة أمام خلافاتها الداخلية التي تهدّد بانقسام المجتمع بسبب هيمنة المتشدّدين من اليمين والمتدينين، ومن جهة أخرى أمام التحدي الأمني الكبير في الضفة وكيفية التعامل معه بأقل الخسائر الممكنة.
الضفة الغربية / صورة: AA (AA)

"عندما ننجح في تصفية فلسطينيين، تولد عملية أخرى على سبيل الثأر، وعندما ينجحون في قتل إسرائيليين، تولد عملية أخرى (للفلسطينيين) على سبيل الإلهام، كل حدث يزيد الاحتمال لحدث جديد"..

هكذا عبَّر مصدر أمني إسرائيلي للكاتب الإسرائيلي في صحيفة يديعوت أحرونوت ناحوم برنياع، عن فشل إسرائيل في التصدي لمجموعات المقاومة الفلسطينية في شمال الضفة (جنين ونابلس)، ولتزايد عمليات المقاومة المحكمة التنفيذ، وللعمليات الفردية التي يقوم بها شبان وشابات ضد قوات الاحتلال والمستوطنين في الضفة المحتلة.

ولخّص هذا المصدر حقيقة المأزق الإسرائيلي الذي تحدث عنه قادة الاحتلال بأكثر من صيغة.

ثمن الاحتلال

والحقيقة أنّ المقاومة الفلسطينية للاحتلال لم تتوقف يوماً، ولكنها اتَّخذت في الفترة الأخيرة أنماطاً جديدة لمواجهة الاحتلال وعربدة المستوطنين الذين وجدوا لهم رعاة ومشجعين في حكومة إسرائيل اليمينية المتشددة.

وربّما أضعفت حملة إسرائيل المركّزة والشرسة بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، الفاعلية الميدانية لتنظيمات المقاومة، ولكنّها في الوقت ذاته أطلقت العمليات الفردية في كل أنحاء الضفة التي استخدم فيها الفلسطينيون السكاكين والدهس وحتى المسدسات البسيطة، في ظاهرة فشل الاحتلال في تفاديها لعجزه عن توقع منفّذيها المحتملين حتى مع امتلاكه الوسائل الاستخبارية والتقنية العالية.

وكان التحدي الأكبر الذي واجهها هو نشوء تنظيمات مقاتلة ليس لها لون تنظيمي محدد مثل كتيبة جنين في جنين، وعرين الأسود في نابلس، والتخوّف من امتداد هذا النمط إلى بقية مدن الضفة.

وبينما استطاعت إسرائيل تصفية عدد من قادة هذه التنظيمات، فقد تمكنت السلطة الفلسطينية من إقناع بعض قادتها بإلقاء السلاح والانضمام للأجهزة الأمنية، أو الامتناع عن المقاومة على الأقل مع شراء أسلحتهم بأثمان عالية.

غير أن كلّ ذلك لم يؤدِّ إلى إضعاف هذه التنظيمات، لأسباب عدّة، أهمها: أنّها حظيت بدعم حماس والجهاد الإسلامي سياسياً وميدانياً وعملاتياً ومالياً، بينما انضوى تحتها مقاتلون بشكل فردي من كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح، في وقت تراجعت فيه وضعفت قبضة السلطة في هاتين المدينتين ومخيماتهما.

وفي ظل أجواء انعدام اليقين وانسداد أفق الحل السياسي وخصوصاً مع الحكومة الإسرائيلية المشكَّلة من اليمين، واليمين الديني المتطرف، مقروناً بحملات الاستهداف التي يشنها الاحتلال، واعتداءات المستوطنين على الأرض والإنسان الفلسطيني.

فقد انتعشت روح المقاومة في شمال الضفة لدى جيل من الشباب لم يعِش مرحلة اتفاق دايتون الذي صُمّم أمريكياً وعملت عليه إسرائيل والسلطة لملاحقة المقاومين، ووجدت لها حاضنة شعبية وفصائلية مكّنتها من تطوير وسائلها القتالية، والصمود أمام محاولات الاقتلاع.

ورغم أنّ قوات الاحتلال نجحت في آخر هجوم نفّذته على مدينة جنين في قتل 5 فلسطينيين، إلا أنّها فوجئت بكمين محكم نصبه المقاومون لها في أثناء انسحابها، وإعطاب عدد من آلياتها، ما اضطرها لأول مرة لاستخدام المروحيات الهجومية التي أصيبت إحداها في الهجوم!

وتبع ذلك نجاح مقاومين من حماس في تنفيذ هجوم على مستوطنة "عيلي" قرب نابلس أدى إلى مقتل 4 مستوطنين، الأمر الذي أعطى رسالة للاحتلال بأنّ حملتها العسكرية التي قُتل فيها 86 فلسطينياً في جنين ونابلس وحدها منذ بداية العام قد باءت بالفشل، ولم تحقق الأمن للمستوطنين المبثوثين في أحشاء هذه التجمعات الفلسطينية.

حيرة إسرائيل

وانطلقت بعد هذه الأحداث دعوات اليمين الديني المتطرف المهيمن في الحكومة الحالية لشن عملية عسكرية واسعة شبيهة بالعملية الشاملة التي اجتاح فيها الجيش الإسرائيلي عام 2002 مناطق السلطة الفلسطينية "السور الواقي" وأسفرت عن إجهاض الانتفاضة.

ويشكك كثيرون بلجوء إسرائيل لهذا الخيار لأنّه لن يحقق الأهداف المرجوّة منه، وقد يؤدي إلى انعكاسات سلبية عديدة على إسرائيل، في ظل تعقيد التركيبة الداخلية والتحديات والتداعيات الخارجية المحتملة.

ويقول محللون استراتيجيون إسرائيليون، إنّ الظروف العملياتية والاستراتيجية التي كانت سائدة خلال عملية "السور الواقي"، تختلف بشكل جذري عن الأوضاع الحالية، إذ يشنُّ الجيش الإسرائيلي حالياً عمليات مستمرة ضد التجمعات السكانية الفلسطينية، وخصوصاً في جنين ونابلس مركّزاً على استهداف المقاومين ومحاولة الفصل بينهم وبين محضنهم الشعبي، ما ينفي الحاجة إلى عملية شاملة ستستفزّ الجماهير، وتستدعي تفاعل مدن أخرى في الضفة، وانتشار حالة مقاومة يصعب على إسرائيل والسلطة ضبطها.

وتوقع الباحث في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، عوفر شيلح، -وهو الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست- أنّ "تقرّب عملية إطلاق النار في نابلس عملية واسعة للجيش الإسرائيلي في شمال الضفة"، مشيراً إلى أنّ "الضغوط لشنّ هذه العملية يشارك فيها أيضاً جهاز الاستخبارات الداخلية "الشاباك".

ويؤكد -في مقاله بصحيفة "يديعوت أحرونوت"- أنّ الجيش لا يؤيد ذلك، ويقول إنّ "قادته يتردّدون حيال ما سيحدث لاحقاً، ماذا سنفعل بعد الخسائر في الجانبين؟ هل نبقى في قلب مخيمات اللاجئين؟ ننفذ عمليات عسكرية مشابهة في مدن فلسطينية أخرى، فيها مناطق مستباحة آخذة بالتطور؟ نخاطر باشتعال الوضع في غزة وربّما في مناطق أخرى؟".

وفي ضوء الاحتجاجات التي تعمّ إسرائيل ضدّ إضعاف القضاء، وتهديد قطاعات من الجيش برفض الخدمة العسكرية، فإنّ شيلح يلفت الانتباه عما ستفعله عملية عسكرية كهذه بنسيج هذا الجيش الذي يقول إنه "بدأ يضعف".

ويرى المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل، أنّه "في نهاية المطاف، حتى لو قُتل مسلحون واعتُقل مئات المشتبهين الآخرين، فإنّ ما يمكن لقوات الأمن أن تتمناه هو تهدئة مؤقتة".

ويسلّط هرئيل الضوء على نقطة مهمة، ويقول إنّ "مزيج الظروف الحاليّة، من حكومة يمينية متطرفة تعتمد على المستوطنين ومقابلها نظام فاشل وضعيف للسلطة الفلسطينية، ولا سيّما في شمال الضفة الغربية، لا يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار".

الحملة الشاملة مستبعدة

وهكذا، فإنّ إسرائيل تواجه تحدياً غير مسبوق، فهي تقف من جهة أمام خلافاتها الداخلية التي تهدّد بانقسام المجتمع بسبب هيمنة المتشدّدين من اليمين والمتدينين، ومن جهة أخرى أمام التحدي الأمني الكبير في الضفة وكيفية التعامل معه بأقل الخسائر الممكنة.

ويتحدث خبراء أمنيّون إسرائيليون عن احتمال احتلال مدينة جنين، ولكنّهم يحذرون من خسائر فادحة للجيش وخصوصاً بعد تطوّر تقنيات المقاومة هناك، فضلاً عن احتمال فلتان الأمور وتدهورها في الضفة الغربية، وتضعضع مكانة السلطة الفلسطينية إلى حدٍّ كبير.

ويعارض جيش الاحتلال ذلك، ما يدفع للاعتقاد أنّ هذه خطوة لن تتم لمجمل الأسباب المذكورة.

ومن المتوقع أن تسعى إسرائيل إلى عملية تصعيد محدودة لاقتحام مدينتي جنين ونابلس، من دون أن تصل إلى حملة عسكرية شاملة، نظراً لتداعياتها السلبية المحتملة، ورغبة في عدم تعميق حكومة الاحتلال لخلافاتها مع الولايات المتحدة التي ازدادت بعد الإعلان عن التوسّع في الخطط الاستيطانية، والهجمات التي شنّها المستوطنون على تجمّعات فلسطينية قرب رام الله، يعيش فيها مواطنون فلسطينيون يحملون الجنسية الأمريكية.

إيران والتطبيع

وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإنّ أي حملة شاملة ستؤدي إلى غرق الجيش الإسرائيلي في أتون الحرب في الضفة واستدعاء المزيد من الوحدات المقاتلة، وربما تطور الأمر إلى حرب مع غزة، ما سيؤثر في الاستعدادات لأي مواجهة مع حزب الله في الشمال، ويشغله أكثر عن مساعيه لوقف ما يسميه مسار تحول إيران إلى دولة نووية.

وتعتقد واشنطن أنّ أي عملية شاملة في الضفة ستضرّ بمسار التطبيع المحتمل الذي يسعى إليه رئيس الحكومة نتنياهو مع السعودية، بل أضرّ بمسار قمة النقب التي تشارك فيها دول عربية طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، إذ أجّلت الرباط انعقادها الثاني في المغرب إلى الخريف المقبل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي