أين يَنْحَدُّ بالضبط مجال اشتغال المؤسسة العسكرية في الوطن العربي؟ هل يفترض في الجيش ألا يتجاوز الثكنات ومراقبة الحدود؟ أم يمكنه الامتداد باتجاه الممارسة السياسية والتدخل في تدبير الشأن العام؟ أليس معنياً بما يحدث من إعادة ترتيب لقطع "البوتزل" هنا والآن؟ أم أن "قواعد اللعب" توجب عليه التفرج من بعيد لا غير؟
الداعي إلى الاستفهام بشأن آثار سلطة الجيش وتفريعاتها الواقعية، هو ما نعيشه من التباس وتداخل في الاختصاصات في الزمن العربي، حيث "التناص السلطوي" على أشده ما بين المدني والعسكري، وخصوصا في عز الانتقالات، التي تعول فيها الجماهير على التحرر من "تغول" سلطة ما، فإذا بها تقع "رهينة" مجددا لسلطة أخرى، فيصير المؤقت دائما، والالتباس نصا دالا ومؤثرا.
لم يكتف الجيش في البلاد العربية بدوره الطبيعي المتمثل في حماية السيادة الترابية بل انتقل بكل ثقله الرمزي والمادي من حدود الوطن إلى حدود السياسة والسلطة.
إن الوقائع المعلنة توهمنا أحيانا بأن هناك الجيش مستقل عن السلطة والنظام السياسي، و أنه لا يتدخل في الجاري من الأحداث، وأنه مختص بالدفاع عن حوزة الوطن لا غير. ولكن باعتماد قراءة تاريخية لمسار المؤسسة العسكرية يتضح بجلاء، بأنها ليست "مؤسسة بكماء" كما يطلق عليها آل المتاعب، وإنما هي مؤسسة فاعلة وصانعة للقرار أو على الأقل مؤثرة فيه. فالجيش يظل في كل نظام، أي نظام، بمثابة قطب الرحى، التي يتم الارتكان إليها، وطلب خدماتها في اللحظات العصيبة.
لم يكتف الجيش في البلاد العربية، بدوره الطبيعي المتمثل في حماية السيادة الترابية، بل انتقل بكل ثقله الرمزي والمادي من حدود الوطن إلى حدود السياسة والسلطة، بل وإلى كثير من الفعاليات المجتمعية المدنية كالرياضة والثقافة والعمل الاجتماعي ...
فتاريخ الدول العربية وراهنها يؤكدان أن المؤسسة العسكرية لا تكتفي بدور مراقبة الحدود وحماية الأوطان من التهديدات الخارجية، بل تساهم في صنع القرار و صنع الرؤساء أيضا كما حدث في الجزائر وليبيا والعراق ومصر. خصوصا وأن السلط الحاكمة، تعتبره "ملكية خاصة" لها، تستخدمه لحماية نفسها من المعارضة السياسية، ومن كل أخطار التهديد والمنافسة على المشروعية. وهو ما يزيد من حجم سلطة الجيش ويبرر تدخله في الشأن العام.
إن الاحتقانات والمواجهات المستمرة بين السلط الحاكمة و الأحزاب حول المشروعية واقتسام منافع التدبير السياسي لدفة الحكم، فضلا عن ضعف الأحزاب ذاتها، كانت من بين الأسباب المحفزة على تدخل الجيش في الحكم، فالسياسي المرتزق لا يمكنه أن يرفض هذا التدخل، لأنه لا يتمتع بقدر كبير من القوة تجعله في غير حاجة إلى بناء تحالفات مع العسكريين أو معارضتهم بشكل مباشر.
يبدو واضحا أن التاريخ السياسي العربي خلال القرن العشرين على الأقل، تبصمه حركية مواجهة دائمة بين السلط الحاكمة والأحزاب، ولم ينته هذا الصراع أو أنه لم يضعف وتخفت حدته سوى بالاعتماد على الجيش واليمين الحزبي، فضلا عن مؤسسات وهياكل أخرى تؤمّن للنسق نوعا من الاستقرار والتوازن. وبذلك فقد عاش العالم العربي على إيقاع الانقلابات العسكرية ردحا من الزمن، إلى الدرجة التي صار الولوج إلى كرسي الحكم، مرهونا بالاستنجاد بالمدرعات والذخيرة الحية.
إن الاحتقانات والمواجهات المستمرة بين السلط الحاكمة و الأحزاب حول المشروعية واقتسام منافع التدبير السياسي لدفة الحكم، فضلا عن ضعف الأحزاب ذاتها كانت من بين الأسباب المحفزة على تدخل الجيش في الحكم.
وفي هذا الصدد يقول محمد نور فرحات بأن: "المؤسسة العسكرية العربية لعبت منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن، أخطر الأدوار في الحركة السياسية الرسمية في العالم العربي، إذ كانت الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية العاجزة عن قيادة مواجهة التحديات ظاهرة متكررة في أغلب البلاد العربية"، ففي عام 1949 حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية في سوريا وحدها. وخلال الفترة الممتدة من سنة 1952 لغاية سنة 1986، حدث حوالي 34 انقلاباً عسكرياً ناجحاً في العالم العربي، تنضاف إليها "انقلابات بيضاء" بكل من السودان سنة 1986 وتونس سنة 1987 وموريتانيا سنة 2005، وما تواصل عشية الربيع العربي من تدخل عسكري في كل من مصر والجزائر مؤخراً.
كل هذا يؤكد أن الجيش لم يبق على خط الحياد، وأنه كان رقما أساسا في معادلات النسق العربي، وأن النتيجة كانت تحسم لصالحه، في كل جولات الصراع حول التحكم في مفاصل السلطة والتدبير، وأنه لم يقبل بتسييج دوره داخل حدود مرسومة ضمن أعرق الديموقراطيات. فقد بدا واضحا منذ بداية التكريس القانوني والتنظيمي لمؤسسة الجيش، وأساسا بالنسبة لنخبه المسيرة، أن مجال الاشتغال الخاص بدوائره وامتداداته المجتمعية يتجاوز حدود الثكنات والقيادات العسكرية إلى مجموع النسق السياسي، ما يدل على حقيقة السلط التي يحوزها الجيش ومكانته في تدبير وصنع القرار داخل البلاد العربية.
إن ما يحدث آنا في مصر والجزائر من "تغول" للسلطة العسكرية، يدعو إلى تجديد النقاش حول الأفق والاحتمال، في اتصالهما الوثيق بكائن مفتوح على "الالتباس التخصصي والتدخلي"، وممكن مجهول متصل باستقلالية الحقل السياسي/المدني عن كل تأثير عسكري، تماما كما هو الأمر في الدول الديموقراطية التي تعترف للجيش بمكانته الرمزية، دون إفراط أو تفريط.
العطب العربي لا يمكن تجاوزه ولا التحرر من تبعاته إلا بانخراط واع ومسؤول للنخب المثقفة فالمثقفون، وليس الجيش أو حتى الساسة، يظلون مؤهلين أكثر لتحرير وتنوير المجتمع وقيادته باتجاه الكرامة والعدالة الاجتماعية.
لكن لنعترف اليوم، بأن هذا التدخل العسكري، لم يعد مرحبا به، مع وجود "جاليات عربية مقيمة في الفايسبوك"، ومع حراك شعبي هادر يقول لأقوى الأجهزة القمعية "game over". فإذا كانت السنوات السابقة تضمن للأنظمة "استعمالا سعيدا" لذات الأجهزة، بحيث يطلق الرصاص على العزل، أو تقوم الدبابات والسيارات المصفحة بتطويق المدن، وعدم التردد في إعلان حالة الطوارئ، وما إلى ذلك من التدخلات العنيفة الموشومة في الذاكرة الجمعية.
ختاما نقول بأن العطب العربي لا يمكن تجاوزه، ولا التحرر من تبعاته، إلا بانخراط واع ومسؤول للنخب المثقفة، فالمثقفون، وليس الجيش أو حتى الساسة، يظلون مؤهلين أكثر، لتحرير وتنوير المجتمع وقيادته باتجاه الكرامة والعدالة الاجتماعية. فالنخب المثقفة لا يمكن أن تعفي نفسها من أداء مهمتها التاريخية التي تؤكدها مختلف التجارب الإنسانية، ولا يمكنها أن تمنع نفسها من مقاومة كل وسائل القمع والإغراء، تحصينا لأدوارها الطليعية وتلبيةً لاحتياجات الذين هم تحت، ممن يأملون من المثقف أن يكون"صوت من لا صوت لهم".وعليه فالرهان ينبغي أن يكون على المدارس لا الثكنات، وعلى القلم لا البنادق.فمتى يحدث ذلك؟
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.