ومهّدوا الطريق لحكومة جديدة يرأسها مدير المخابرات السابق مصطفى الكاظمي، ذات طابع انتقالي، أعلنت منذ البداية أن هدفها الأساسي هو تهيئة الظروف لإجراء انتخابات نيابية مبكرة ناجحة.
ومع جوّ التحشيد الذي يتصاعد وصخب الدعايات الانتخابية لمختلف الأطراف السياسية، ومع عبارات التفاؤل التي أطلقها رئيسا الحكومة والجمهورية، وبأنها انتخابات تأتي لتحقيق التغيير السياسي الذي يطمح إليه المواطنون المطالبون بالإصلاح، وأنها الوسيلة الوحيدة الفعّالة لإحداث التغيير، كما عبّر برهم صالح رئيس الجمهورية، فإن غيوم المقاطعة تخيّم على الأجواء، مذكّرة بأجواء مشابهة سبقت انتخابات 2018 وجعلت نسبة التصويت ضعيفة، لم تتجاوز العشرين بالمئة من أصوات مَن يحقّ لهم الانتخاب.
وهي نسبة أيّدها مراقبون للانتخابات، وتصريحات بعض السياسيين، ورغم أن مفوضية الانتخابات ضاعفت هذه النسبة في إعلانها عن نسبة المشاركين في حينها، فإن هناك ما يشبه الإقرار العام بأن المقاطعة كانت مؤثرة، وأضعفت شرعية البرلمان والحكومة التي انبثقت عنه. ثم جاءت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 لتعطي مصداقية على نقص الشرعية، فالكثير من المشاركين في هذه التظاهرات الغاضبة كانوا من المقاطعين للانتخابات.
الخشية من أن تكون نسبة المقاطعين كبيرة هذه المرّة، دفعت الزعماء السياسيين إلى الاستنجاد بمرجعية النجف، التي صرّحت في استفتاء لها قبل أيام بضرورة الذهاب إلى صناديق الاقتراع، "على الرغم من بعض الشوائب" حسب الجواب على الاستفتاء الذي نشرته وسائل الإعلام العراقية ومواقع التواصل الاجتماعي.
يتصدّر جمهور المقاطعين بعض الأحزاب والتيارات السياسية المنبثقة عن احتجاجات تشرين، مثل حزب "البيت الوطني" الذي قاله رئيسه حسين الغرابي "إن الأمن الانتخابي أكذوبة النظام الحالي، ولا وجود لأمن انتخابي في ظل السلاح المنفلت وتهجير الناشطين".
كما نجد أيضاً "الحزب الشيوعي العراقي" الذي كان جزءاً من تحالف قائمة "سائرون" الصدرية في الانتخابات الماضية، وبعض الشخصيات السياسية المعروفة مثل فائق الشيخ علي وإياد علاوي، بالإضافة إلى نخبة كبيرة من المثقفين والإعلاميين الذين أبدوا من خلال منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي مواقفهم من انتخابات العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، والأسباب التي تدعوهم إلى المقاطعة والحضّ عليها.
في دائرة أوسع من هذه النخبة التي تحصل على الكثير من الضوء الإعلامي فإن أهالي وأقارب وأصدقاء أكثر من ثمانية آلاف ضحية من متظاهري تشرين، وأكثر من عشرين ألف جريح، والآلاف من المشرّدين والفارين إلى خارج مدنهم، وكذلك أهالي المغيّبين والمختطفين بسبب التظاهرات، هؤلاء يشكّلون جمهوراً كبيراً رافضاً للمشاركة في انتخابات "تعطي شرعية لنظام من القتلة"، حسب وصف الكثير منهم. وهو نظام لم ينصف أبناءهم الضحايا، ولم يقتصّ من المجرمين أو يقدمهم للعدالة، وبعض هؤلاء المجرمين معروفون ومشخّصون، ولكن النظام السياسي يفضّل غضّ النظر عنهم بدل اعتقالهم، بل ويذهب للتحالف معهم.
يرى جمهور المقاطعين بشكل عام أن القرار السيادي لا تصنعه القوى الصاعدة إلى البرلمان، وإنما تأثيرات أقليمية وخارجية، تضغط على هذا البرلمان، مهما كانت التيارات السياسية الفائزة فيه، وكذلك فإن التأثير الحاسم هو للسلاح وأصحاب السلاح، فهؤلاء حتى لو أصبح تمثيلهم السياسي في البرلمان ضعيفاً فإنهم يملكون وسائل ضغط "غير ديمقراطية" بالضرورة، وقد فشلت حكومة الكاظمي الحالية في الحدّ من تأثير السلاح على القرار السياسي، وفضّلت الانسحاب أمام حضوره، في مناسبات مختلفة خلال العام الماضي، بدعوى عدم الانجرار إلى نزاع مسلّح قد يتطوّر إلى حرب أهلية.
على الأغلب فإن الخوف من مواجهة أصحاب السلاح سيجبر القوى السياسية التي تشكّل الحكومة القادمة على تقديم تنازلات، بدعوى الحفاظ على السلم الأهلي. ما يعني بالضرورة أن الكلمة العليا ستكون للسلاح وصاحب السلاح، وليست للصوت الانتخابي، أياً كان حجمه البرلماني.
وإذ يرى هؤلاء أن الضغط من خارج العملية السياسية، في الشارع والفعاليات المدنية والاحتجاجية، هو الخيار الأنجع لإجبار النظام السياسي على إجراء الإصلاحات المطلوبة، فإن جبهة المؤيدين للانتخابات لا تضمّ فقط قوى الأحزاب التقليدية وجمهورهم، أو المرجعيات الدينية والاجتماعية، وإنما قوى سياسية انبثقت هي الأخرى من ساحات الاحتجاج التشريني، كما هو الحال مع حركة "نازل آخذ حقّي" وتيار "امتداد" الذي يرأسه علاء الركابي، فهذه القوى وبعض التنظيمات السياسية الأصغر والشخصيات المستقلة، التي تنتسب كلّها إلى الحراك الاحتجاجي التشريني، ترى أن مزاحمة "القوى السياسية الفاسدة"، حسب وصفها، هي الخيار الوحيد المتاح للتغيير، وأن تقليل حجوم هذه الكيانات السياسية التقليدية في البرلمان القادم مهمّ جداً لخفض شرعيتها، وكشف حجمها السياسي وحجم جمهورها الفعلي ومدى تأييد الناس لها، وإن نجحت في إنجاز تحالف لتشكيل حكومة جديدة، فإنها لن تكون بذات العنفوان والقوّة السابقة، كما أن وجود ممثلين عن الحراك الاحتجاجي داخل البرلمان يعطيهم مصدر قوّة لفرض التشريعات التي يطالب بها جمهور المحتجين، وكذلك لإنجاز رقابة أكثر فاعلية على عمل الحكومة، قياساً بالمستوى الهزيل للدور الرقابي للبرلمان الحالي.
يسخر المقاطعون من هذه الآمال، ويضربون مثلاً بنوّاب مستقلين ونزيهين، صعدوا إلى برلمان 2018 من دون دعاية انتخابية حتّى، معتمدين على سمعتهم الجيّدة بين جمهورهم، مثل النائب الحالي محمد علي زيني، الذي تعرّض لضغوط كثيرة، واضطُرّ في النهاية إلى الانضمام إلى كتلة "سائرون" الصدرية في البرلمان، كما أنه تعرّض في منتصف عام 2019 لمحاولة اغتيال فاشلة جنوبي بغداد. في المحصلة لم يصدر أي صوت عن هذا النائب النزيه المستقل خلال السنوات الثلاث الماضية، ولم نرَه حتى على وسائل الإعلام، ولا يبدو أنه سيشترك في الانتخابات الحالية أصلاً.
يتحدث رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي بثقة عن إنجازات حكومته، وأنها حقّقت الكثير، وأعادت الثقة بالنظام السياسي، وجسّرت الهوة بين الحكومة والشعب، حسب تصريحاته لوسائل الإعلام في الأيام الماضية، وأنه حشّد الجهود لتنظيم انتخابات فيها أعلى نسبة من النزاهة والحدّ من التزوير، بالإضافة إلى إشراك نحو 800 مراقب دولي على الانتخابات، ولسان حاله يقول: "لا أستطيع مواجهة المليشيات، كما يطلب مني متظاهرو تشرين، لأنهم يحظون بحماية ثاني أكبر كتلة برلمانية، اذهبوا أيها الراغبون في التغيير وقلّلوا فرص هذه الكتلة بالنجاح، وحينها سيكون البرلمان والحكومة القادمة أكثر قدرة على الحدّ من هيمنة المليشيات.
وهذا الرأي هو ما يسود أوساطاً قريبة من القوى الدولية المؤثرة في الشأن العراقي، وأهمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، فهذه القوى لا تُخفي تأييدها لـ"كتلة الصدر" و"تحالف قوى الدولة الوطنية" الذي يضمّ تيار الحكيم وكتلة النصر التي يرأسها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي. وتطمح هذه القوى الدولية إلى أن يحقق هذان التحالفان فوزاً كاسحاً على الكتلة المنافسة "تحالف الفتح" المقرَّب من إيران. بما يحدّ من نفوذ إيران وأذرعها المسلحة على الشأن السياسي والأمني في العراق.
ولكن تحالف الفتح لا يقف متفرجاً، وإنما يستشعر أهمية ما سيحدث، ويعبّر قادته عن كون الانتخابات القادمة هي "معركة مصيرية"، لا تقل شأناً عن أي معركة أخرى، ما يوحي بشراسة المواجهة القادمة.
كلّ ما سبق يشير إلى تعقُّد المشهد عشية الانتخابات البرلمانية، وصعوبة التكهن بنتائجها منذ الآن. وعلى الأرجح فإن تدنّي نسبة التصويت، سيعطي مؤشراً على حجم الرفض الشعبي للنظام السياسي برمّته، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام توقُّع عودة الاحتجاجات الشعبية إلى الشارع العراقي في أي فرصة تتاح له.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.