لكن المذبحة المروعة ضد مصلين مسلمين في نيوزيلندا على يد رجل غربي أبيض قد تساهم في زعزعة مصطلح الإرهاب وتعيد النظر في مفهومه ومصداقه.
إن الهجوم الإرهابي المشين الذي قام به الأسترالي برنتون تارانت (28 عاماً)، يبدد الصورة النمطية السائدة حول الإرهاب، الذي يرتبط بصورة آلية في الخطابات الغربية الشائعة بالإسلام والمسلمين؛ فقد كشفت الجريمة البشعة عن صورة طالما جرى طمسها عن تاريخية الإرهاب وهوية مرتكبيه، وتنامى الحديث حول ممارسات الإرهاب "الأبيض" الذي يستند إلى إبستمولوجية خطابية عرقية عنصرية تفوقية بيضاء تعاظمت مع صعود إيديولوجية اليمين المتطرّف، والشعبوية في الغرب التي تنحدر إلى مقام الفاشية.
إن الهجوم الإرهابي المشين الذي قام به الأسترالي برنتون تارانت يبدد الصورة النمطية السائدة حول الإرهاب الذي يرتبط بصورة آلية في الخطابات الغربية الشائعة بالإسلام والمسلمين.
فالهجوم الإرهابي المزدوج الذي استهدف المصلين الأبرياء في مسجدي "النور" و"لينوود" في مدينة كرايست شيرش النيوزيلندية بتاريخ15مارس/آذار 2019 أثناء صلاة الجمعة، وأسفر عن قتل 50 قتيلاً، وإصابة العشرات، شكّل صدمة لذات غربية نرجسية تضفي على نفسها سمة الحضارة والإنسانية والسلام دون الاعتراف بنقائضها المشكِّلة للهوية بما تحمله من بربرية وهمجية وعدوانية.
لم تكن مجزرة مسجدي "النور" و"لينوود" الأولى من نوعها لكنها كانت الأعنف والأوضح، ويصعب تصنيفها في خانة "الجريمة الفردية" أو وصف مرتكبها كـ"مختلّ عقلياً"، وهي الأوصاف الجاهزة في كافة الحالات السابقة، إذ تعكس الجريمة الإرهابية لمنفذها تارانت الإيديولوجية الإرهابية الكامنة في صلب العرقية البيضاء والبيئة الحاضنة لـ"الإرهاب العنصري"، المتغلغل في خطاب اليمين المتطرّف.
فضلاً عن تنامي وتطوّر سياسات ومواقف غربية تقود وتغذي خطابات الكراهية ومعاداة الأجانب ورفض التنوّع، ومهاجمة الآخر على أساس الهوية، فعلى الرغم من أن السلطات النيوزيلندية وصفت الاعتداء، على الفور، بالعمل الإرهابي، إلا أن بعض المعلقين أصر على كون الجريمة فردية، واحتمال أن يكون مرتكب الاعتداء مختلاً عقليّاً، فضلاً عن حجج أخرى لنزع صفة الإرهاب عن الجريمة.
لقد بدد البيان الذي نشره مرتكب الاعتداء على الإنترنت الحجج والذرائع الواهية في تكييف الجريمة ودوافعها، وكشف -دون لبس- عن الطبائع الإرهابوية ونهج الإرهاب فقد شرح الإرهابي بجلاء وإسهاب مستندات الإيديولوجية الإرهابية العنصرية اليمينية البيضاء في 73 صفحة تحت عنوان "مانيفستو الاستبدال الكبير"، حيث قال إنه أراد أن تكون عمليته جرس إنذار في الغرب، ورسالة من "مجرد رجل أبيض عادي".
وأكد أنه أراد قتل مسلمين منطلقاً من أيديولوجية عنصرية تدعي الدفاع عن الجنس الأبيض، وقد استلهم عنوان بيانه من كتاب يحمل ذات العنوان للكاتب الفرنسي رونو كامو بشأن اختفاء الشعوب الأوروبية البيضاء، التي يتم استبدالها بشعوب غير أوروبية مهاجرة، مشيراً إلى التزايد الكبير لعدد المهاجرين الذين اعتبرهم محتلين وغزاة، وأضاف: "إن أرضنا لن تكون يوماً للمهاجرين. وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك ولن يستطيعوا يوماً استبدال شعبنا"، وأشار تارانت إنه دعم الرئيس ترمب باعتباره "رمزاً لهوية البيض والأهداف المشتركة لا باعتباره زعيماً سياسياً".
لا جدال أن إرهاب اليمين المتطرف كان في تصاعد في العقد الأخير من القرن العشرين، وهو ما تجاهلته الحكومات الغربية.
لا جدال أن إرهاب اليمين المتطرف كان في تصاعد في العقد الأخير من القرن العشرين، وهو ما تجاهلته الحكومات الغربية، فقد سجّل المعدل العام للوفيات جراء الإرهاب في العالم انخفاضاً بنسبة 27 في المئة، إلا أن العمليات الإرهابية لجماعات اليمين المتطرف شهدت تصاعداً في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، فوفق تقرير مؤشر الإرهاب العالمي للعام 2018 الذي يصدره بشكلٍ دوري معهد الاقتصاد والسلام، تفيد أرقام المؤشر بأن 66 شخصاً قُتلوا في هجمات نفذها أشخاص وجماعات يمينيّة، بين عامي 2013 و 2017، من بينهم 17 قتيلاً، في مقابل 47 هجوماً في العام 2017.
وتعرضت المملكة المتحدة إلى 12 هجوماً إرهابياً شنتها جماعات يمينية متطرفة، والسويد تعرضت لـ6 هجمات، وكلٌّ من اليونان وفرنسا لهجومين. أمّا الولايات المتحدة، فشهدت 30 هجوماً يمينياً في العام 2017، قُتل بنتيجتها 16 شخصاً، وتوصّل التقرير إلى أن غالبية هذه العمليات نفذها "أشخاص منفردون من أصحاب المعتقدات اليمينية المتطرفة أو القومية البيضاء أو المعادين للإسلام".
وقد ازدهر هذا الإرهاب مع تنامي الشعبوية، وهي إيديولوجيات مستلهمة من الحداثة الغربية، التي طمست تواريخ العنف والإرهاب المستلهم من الإيديولوجيات العلمانية، وقصرت مفهوم العنف والإرهاب على الدين، وهو ما نقضه ويليام كافانوفي كتابه "أسطورة العنف الديني، الأيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث" الذي قام بتفحص فكرة العنف الديني وتحدى التوجه السائد في الثقافة الغربية أن الدين عموماً والإسلام خصوصاً لديه قدرة كبيرة وخطيرة على الترويج للعنف، ويعتبرها من أكثر الأساطير شرعية في الغرب الحديث، إذ تبرز المفارقة بجلاء خلال القرن الماضي، ففي ظل أفول الدين وانحسار هيمنته على الحياة، لم يزدد الوضع إلا سوءاً، حيث كان القرن العشرين -بحربَيه العالميتين ولأسباب غير دينية تماماً- هو القرن الأكثر دموية في تاريخ البشرية برمته.
تُذكّر العملية الإرهابية في نيوزيلندا بهجمات على نفس الشاكلة الإرهابوية، وهي عديدة ومن أبرز الهجمات الإرهابية المنفّذة من قِبل أشخاص أو جماعات، صُنفوا على أنهم من "اليمين المتطرف"، تفجير مدينة أوكلاهوما الأمريكية، حين تعرّض مبنى ألفريد مورا الفيدرالي في مدينة أوكلاهوما الأمريكية إلى هجوم بسيارة مفخخة والذي قام به تيموثي ماكفيفي 19 أبريل/ نيسان 1995، سقط نتيجته 168 قتيلاً وأُصيب 680، إضافة إلى تسبّبه في أضرار في 324 مبنى وتدمير أو حرق 86 سيارة.
وقُدّرت حينذاك قيمة الأضرار بحوالي 652 مليون دولار أميركي. والهجوم الذي وقع في العاصمة النرويجية أوسلو، حيث قُتل 77 شخصاً وجُرح 151 وهو هجوم نفّذه النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك، وهو يميني متطرّف، في 22 يوليو/ تموز 2011. وأقدم بريفيك حينذاك على تفجير سيارة مفخخة في قلب حي الوزارات في أوسلو، قرب مقرّ رئيس الوزراء، ثمّ انتقل إلى مخيّم صيفي لشباب حزب العمال في جزيرة أوتويا، على بعد نحو 40 كيلومتراً، حيث أطلق النار على عشرات المشاركين في المخيم.
أحد المسائل التي تكشف آليات ربط الإرهاب بالإسلام، أن التقارير الإخبارية التي صدرت عقب تفجير أوكلاهوما سيتي، والهجوم في أوسلو سارعت إلى ربط الاعتداءات بالإرهاب الإسلامي، وتبرع "الخبراء" بالادعاء أن هجمات أوكلاهوما سيتي تحمل بصمات الإرهاب "الشرق أوسطي" و"الإسلامي"، وعندما كشفت هوية ماكفي كمنفذ للعملية لم يربط الإعلام الأميركي "مسيحيته" بالهجمات، بذات الطريقة التي أدين بها "الإسلام" عقب الهجوم، بل جرى التعمية على هويته الدينية والإيديولوجية، وتم التركيز على حالة الإحباط النفسية المرتبطة بخدمته العسكرية وميوله وشكواه السياسية باعتبارها الأسباب الجذرية وراء العنف.
وعقب الهجوم في أوسلو سارعت التقارير الإخبارية على ربط الهجمات بالإرهاب الإسلامي، وعلى الرغم من أن بريفيك مسيحي متطرف كان يصف نفسه بأنه "صليبي يقف في وجه مد إسلامي وأنه أصولي مسيحي مُعادٍ للإسلام والمهاجرين"، إلا أن وسائل الإعلام لم تصفه بــ"الإرهابي" وجرت التعمية على مسيحيته كما حدث مع ماكفي واعتبر فعله فردياً ويرتبط بتفسير متطرف للمسيحية يناهض التيار المسيحي الرئيس في الغرب.
تؤكد العملية الإرهابية ضد مسلمي نيوزيلندا على أن الإرهاب ليس مخصوصاً بالأديان وتعيد النظر في ظاهرة الإرهاب كأحد منتجات الحداثة ذلك أنّ الإرهاب ليس ظاهرة دينية بل هو اختراع خاص جدّاً بالثورة الفرنسية.
تؤكد العملية الإرهابية ضد مسلمي نيوزيلندا على أن الإرهاب ليس مخصوصاً بالأديان، وتعيد النظر في ظاهرة الإرهاب كأحد منتجات الحداثة، ذلك أنّ الإرهاب ليس ظاهرة دينية بل هو اختراع خاص جدّاً بالثورة الفرنسية، وهو أسلوبها المكرّس لتصفية المعارضين باعتبارهم "مضادّين للثورة"، ويمثّل تهمة ما بعد دينيّة تمامًا، تهمة "علمانيّة"؛ فأوّل ظهور لمصطلح "الإرهاب" صُك في القرن الثامن عشر، وبالتحديد في نوفمبر 1794، وتمّ تثبيته في المعاجم انطلاقاً من سنة 1798، إبّان توصيف الفترة التي خصّصتها الثورة الفرنسية لتصفية كلّ "المضادين للثورة".
في ظل هيمنة خطاب غربي بعد 11 سبتمبر يربط بين الإرهاب والإسلام، بات الحديث عن إرهاب مغاير يستند إلى هوية غربية ويقوم على إيديولوجية علمانية نسجاً من الخيال، إلا أن تنامي ظاهرة الإرهاب الأبيض ومنعطف مذبحة نيوزيلندا جعل من عملية الإنكار ضرباً من الجنون، وإذا كانت الخطابات البلاغية الغربية بالتفريق بين "الإسلام" و"الإرهاب"، قد سادت في عهود قريبة، فقد باتت في زمن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من الماضي.
ففي عهد ترمب أصبحت سياسة الحرب على الإرهاب مشبعة بالأثر الاستشراقي، رغم أن الغرب كما يشدد إدوارد سعيد في كتابه "تغطية الإسلام": "لا يرى في المسلمين أكثر من مشاريع إرهابيين أو مزودي نفط، ومعرفة الغرب بالإسلام والشعوب الإسلامية ليست وليدة الهيمنة والمواجهة فحسب، وإنما أيضاً ثمرة لثقافة كراهية غريزية".
لا عجب أن يُعجَب منفذ الهجوم الإرهابي على مصلين مسلمين في نيوزيلندا بترمب ذلك أن ترمب تفوق على نظرائه في وقاحته دون حدود فقد حفلت حملاته الانتخابية بالحديث عن "الإرهاب الإسلامي المتطرف".
لا عجب أن يُعجَب منفذ الهجوم الإرهابي على مصلين مسلمين في نيوزيلندا بترمب، ذلك أن ترمب تفوق على نظرائه في وقاحته دون حدود؛ فقد حفلت حملاته الانتخابية بالحديث عن "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، ولم تكن عباراته المتطرفة مجرد رطانة في سوق التنافس الانتخابي، فعقب فوزه بالرئاسة داوم على تكرار عبارته الأثيرة، حول "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، وهو يشدّد في خطاباته على الكلمات الثلاث: "متطرف، إسلامي، إرهابي"، وسياسة الهوية باتت مهيمنة على النقاش السياسي الأمريكي، ونهج ترمب العام يجتذب السياسية "اليمينية المتطرفة" ماري لوبن بـفرنسا وحزب البديل لألمانيا، وقد أظهر ترمب أن الشعبوية لا تحدد قضايا النقاش فحسب، بل يمكنها أن تكسب.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.