في الثامن عشر من أغسطس/آب الماضي، 5 أيام فقط بعد إعلان اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، خرجت "مؤسسة توني بلير للتغيير العالمي"، بدراسة مطوّلة ومفصّلة عنونتها كالتالي: "اتجاهات الرأي الإعلامي حول إسرائيل في الإعلام السعودي والخليجي"، مستندة إلى القراءة النوعية لمقالات الرأي في الصحف الصادرة في السعودية والإمارات والبحرين وباقي دول الخليج.
تحاجج أطروحة الدراسة بأنه حصل بعد ثورات الربيع العربي ما يشبه انزياحاً في السرديات السياسية "القومية والتقليدية" التي كانت تحكم الرأي العام العربي طيلة عقود، ومن ذلك الطريقة التي بدأ يرى بها الشارع الإسلام السياسي والحركات الجهادية والانقسام السني الشيعي والتهديد الإيراني، وبالأخص تراجع القضية الفلسطينية كقضية عربية أولى، وبالتالي تغيّر الصورة التي أصبحت تُرى بها إسرائيل، حسب رأي الدراسة.
أطروحةٌ لا تبعد كثيراً -ربّما- عن ما تحاول الإمارات طرحه منذ بداية الثورات العربية، التي واجهتها بكل ما أوتيت من تأثير دبلوماسي ودعم مالي وتدخل سياسي وعسكري، بعد أن رأتها تهديداً حقيقياً للطريقة التي باتت ترى بها مستقبل المنطقة، منذ صعود نجم ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى الواجهة.
خلف هذا وذاك، يعود اسم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق ومبعوث اللجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط سابقاً، إلى الواجهة من جديد، هذه المرّة بعيداً عن دوره في حرب العراق، بعد أنباء عن لعبه دوراً مهماً في تسهيل المحادثات الإسرائيلية-الإماراتية التي أفضت إلى الإعلان عن "اتفاق أبراهام"، ما يعيد التساؤل حول الدور الذي يلعبه كـ"استشاري" مؤثرٍ في آراء حكام أبو ظبي ومرتبطٍ ارتباطاً سياسياً ومالياً بهم.
عرَّاب كواليس بدايات التطبيع
في الثالث عشر من أغسطس/آب الماضي، وحينما أنهى ترمب اتصاله بنتنياهو ومحمد بن زايد، وقبل إعلانه التوصّل إلى "اتفاق أبراهام"، جلس إلى مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض وتحلّق حوله يُمنة ويُسرة جمعٌ من مستشاريه ومعاونيه، وبعد إنهاء كلمته، أعطى الفرصة لكل من حوله لإلقاء كلمة مقتضبة، وحينما جاء دور كبير مستشاريه وصهره جاريد كوشنر، وجّه ترمب الحديث إليه قائلاً: "قمتَ بعمل عظيم. جاريد قام بعمل مذهل. الناس لا يفهمون حقاً الأشياء التي يستطيع فعلها… لا أظن أن أحداً يستطيع فعل ما فعله".
لم يلعب كوشنر الدور الوحيد في التوصل إلى اتفاق التطبيع، فبعد ساعات من خروج "اتفاق أبراهام" إلى العلن، كشفت وسائل إعلام في إسرائيل وحول العالم عن أسماء عدد من المساهمين في إقناع أبو ظبي باتخاذ خطوة علنية كهذه، إذ نبّهت القناة السابعة الإسرائيلية إلى دور رجل الأعمال حاييم صبان (إسرائيلي-أمريكي)، فيما أشارت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية إلى دور رئيس الموساد يوسي كوهين.
في خلفية ذلك، يبدو أن ما سهَّل الاتفاق هو استعداد قَبْلي لدى حكّام الإمارات لاتّخاذ خطوة كهذه، ومشاركتهم الحثيثة في جولات محادثات سريّة بدأت عام 2019، بين الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات في كل من واشنطن ووارسو وإسرائيل، حسب ما نقلته صحيفة وول ستريت الأمريكية.
الطريق إلى هذه المحادثات، وبناء الثقة الأولية، كانت خلفها أسماء أخرى لم تجرِ الإشارة إليها من قبل، إذ كشفت صحيفة إسرائيل اليوم الإسرائيلية الخميس، أن توني بلير هو من أطلق المفاوضات السرية بين إسرائيل والإمارات.
وأنجزت الصحيفة تحقيقاً حول الموضوع، يُرتقب أن تنشره كاملاً الجمعة، استندت فيه إلى تصريحات خاصة من مسؤولين إسرائيليين، وقالت إن بلير أكّد في اتصال مع معد التحقيق كل ما جاء فيه.
وقالت الصحيفة إن اللقاءات السرية التي عقدها المبعوث السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق مولخو في العديد من العواصم الأوروبية والخليجية، شكّلت الأساس الذي أدى إلى الاتفاق بين إسرائيل والإمارات.
وأضافت: "أصبحت هذه المفاوضات عبر القنوات الخلفية ممكنة، بفضل جهود رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي عمل أيضاً كمبعوث خاص للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط حتى عام 2015".
وتابعت: "ترأَّس مولخو هذه المحادثات المبدئية في الفترة ما بين 2015 و2018، عندما أُجبر على التنحي كمستشار لنتنياهو، بسبب مزاعم تورُّطه في صفقة مشبوهة لشراء غواصات ألمانية للبحرية الإسرائيلية، وهو اتهام دُحض منذ ذلك الحين"، ونقلت الصحيفة عن مصادر سياسية إسرائيلية رفيعة المستوى لم تسمِّها، قولها: "عُقدت اجتماعات مولخو مع وزير إماراتي في لندن وأبو ظبي ونيقوسيا بوساطة من بلير شخصياً".
وقالت: "ساعدت المحادثات في إعادة بناء الثقة بين إسرائيل والإمارات، في أعقاب العداء الذي أحدثه اغتيال محمود المبحوح الناشط في حماس في دبي عام 2010، على يد ضباط من المخابرات الإسرائيلية الموساد"، وأضافت: "نقل مولخو رسائل تقارب من نتنياهو إلى ولي عهد الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، مما أدى إلى عدة مكالمات هاتفية، وفي النهاية، إلى اجتماعات في عام 2018".
بعيداً عن "السلام".. صفقات بلير مع الإمارات والسعودية
حتى حدود عام 2014، كان توني بلير مرتبطاً بعقد عمل استشاري مع "مبادلة" أحد الصناديق السيادية الإماراتية، وكان صديقاً مقرّباً من ولي العهد محمد بن زايد ويتشاطر معه العداء للإسلام السياسي وعدداً من التوجهات السياسية، حتى إن أحد أصدقاء الأول قال في هذا الصدد: "توجد كيمياء بينه وبين محمد بن زايد"، حسب صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
في السنة ذاتها، كان بلير يبحث إمكانية افتتاح مكتب له في أبو ظبي في محاولة لتوسيع دوره في عالمَي الأعمال والسياسة "خلف الكواليس"، مقدّماً نفسه وسيطاً سياسياً واقتصادياً في الشرق الأوسط، حسب المصدر نفسه.
بعد مغادرته منصبه رئيساً للوزراء، وتوليه مهمّة مبعوث اللجنة الرباعية الدولية، وبعد أن أقامت له وزارة الخارجية الإماراتية حفلاً لاستقباله ومباركة تسلًّمه منصبه الجديد، بدأت مسيرة عمل بلير مع حكّام الإمارات، لتتوّج هذه المسيرة لاحقاً بتوقيع شركة "توني بلير أسوشيتس"، عقداً لتقديم الاستشارات للإمارات بقيمة تتراوح بين 25 و35 مليون جنيه إسترليني، حسب ما نقلت صحيفة تايمز البريطانية عام 2015.
في هذا الصدد، قالت صحيفة إندبندنت البريطانية في تقرير سابق لها، إن مهمة بلير الدولية التي جعلته يطوف العالم بحثاً عن "حل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني"، وضعته على عدد من الطاولات مع قادة العالم الذين كان يرى فيهم فرصة لعقد أعمال تخدمه شخصياً.
بعيداً عن الاتفاقات المعلنة، كشفت تقارير إعلامية لاحقاً تلقِّي بلير مبالغ مالية ضخمة من الإمارات بشكل سري لتلميع صورتها إعلامياً، في الوقت الذي كان يعمل فيه مبعوثاً للجنة الرباعية، الأمر الذي أثار حوله ضجة بسبب تضارب المصالح والتقارب مع الإمارات الذي ينفي صفة الحياد التي يجب أن يتمتع بها المبعوث.
من جهة أخرى، لم تكن الجارة السعودية بعيدة عن أعين بلير، إذ كشفت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية في وقت سابق، عن تلقِّي "مؤسسة توني بلير للتغيير العالمي" سالفة الذكر، مبالغ وصلت إلى 12 مليون دولار مقابل تقديمها خدمات استشارية للسلطات السعودية.