وقد أزهقت قنبلة هيروشما بضربة واحدة أرواح ما يزيد عن 80 ألف إنسان. وقد سميت حينها بالولد الصغير "Little Boy" وبلغت طاقتها التدميرية ما يعادل15ألف طن من مادة TNT شديدة الانفجار، لتتبع بالرجل السمين "Fat Man" وهي التسمية التي أطلقت على القنبلة التي ستلقى بعد أيام قليلة أي في التاسع من أغسطس/آب على مدينة ناكازاكي، وبلغت قدرتها التدميرية ما يعادل21 ألف طن من مادةTNT.
ومنذ ذلك الحين بدأ مسلسل الإنسان مع تطوير تكنولوجيا التدمير الشامل بطريقة متسارعة ومذهلة في نفس الوقت. فعلى سبيل المثال، إذا كانت القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما تعادل في قوتها التدميرية 1000ضعف القدرة التدميرية لأكبر قنبلة تقليدية آنذاك، فإن القنبلة الهيدروجينية التي جرى اختبارها مطلع خمسينيات القرن العشرين تعادل في قدرتها التدميرية 1000قنبلة نووية مثل تلك التي ألقيت على هيروشيما.
أي أن الإنسان وفي غضون ما يقرب من عشرة سنوات فقط قد تمكن من زيادة قوته التدميرية نحو مليون مرة. وهو أمر يصعب استيعابه فعلاً. وكما قال ألبرت آينشتان يوماً بأن"إطلاق العنان لطاقة الذرة قد غيّر كل شيء باستثناء أسلوب تفكيرنا؛ ولهذا ترانا ننجرف نحو كارثة فريدة من نوعها".
ومن قبيل المصادفة أن هذه الذكرى تتزامن مع حدث آخر لا يقل مأساوية تمثل بالانفجار الضخم الذي ضرب مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت مخلفاً دماراً هائلاً، ليس بالمدينة وحسب، بل بالأرواح والممتلكات أيضاً حيث قتل ما يقرب من 135شخصاً، وأصاب ما يزيد عن5آلاف آخرين غير أولئك الذين تشردوا وبلغ عددهم ما يقرب من 300 ألف. ومما أثار الرعب أن كلا الانفجارين قد أنتج ذلك الدخان المتصاعد الذي يتشكل على صورة الفطر، وكأن البشرية استفاقت من كابوس لتدخل في كابوس آخر.
إننا نعود مع تفجير بيروت، وذكرى هيروشيما إلى مساءلة تاريخ طويل من التقنيات والاختراعات التي صنعها الإنسان ليجعل من حياته هو، وحياة الكوكب من بعده، جحيماً لا يطاق. وبعد أن كانت المسؤولية الأخلاقية ملازمة لفعله المباشر، وهو ما فرض قيوداً على النزعات التدميرية، أصبحت مع هذه التقنيات والاختراعات تتباعد، فعندما كان الإنسان يشعر بالأسى حينما يمارس فعل القتل بيديه، بات هذا الشعور يتلاشى حينما غدا يُنفّذ القتل من خلال الآلة، أو مواد صناعية.
إننا نعيش عصر البعد والإبعاد وتعويم المسؤولية على حد قول زيجمونت باومان. ففي عصر آلات الفتك الجماعية، وأسلحة الدمار الشامل تضمحل المسؤولية، ويغدو من الصعب تحميل جهة من الجهات مسؤولية الفعل، وبذلك لا يعدو اللوم الأخلاقي أكثر من مجرد تجميل لصورة ضاربة في القتامة. حتى وإن حُدد الفرد المسؤول، فإن التسلسل التقني والبيروقرطي الذي يحكم الفعل، والذي لا يشكل فيه الإنسان إلا حلقة واحدة، يؤدي إلى النتيجة ذاتها أي إلى "المسؤولية المجهولة".
إن أهم التطورات التكنولوجية في السنوات الأخيرة، كما يقول باومان، "لم تكن في مجال الأسلحة الفتاكة، بل في مجال تحييد الأخلاق وفصلها عن القتل العسكري. بعبارة أخرى، إزاحة القتل العسكري عن فئة الأفعال الخاضعة للتقييم الأخلاقي". ويضيف أن غونثر أندرس، الفيلسوف الألماني الذي كتب "هيروشيما في كل مكان"، قد حذر بعد تدمير ناكازاكي، وقبل زمن طويل من تدمير فيتنام وأفغانستان والعراق قائلاً:" أنت لا تصرّ بأسنانك غاضباً عندما تضغط على زر ما.. فالزر زر لا أكثر". ومع تقدم التكنولوجيا بات حتى هذا الزر يعمل آلياً بطريقة ذاتية عبر تطبيقات الذكاء الصناعي.
إن الانتصار الحقيقي الذي حققه الإنسان بهذه الاختراعات القاتلة، سواء القنبلة النووية، أو الأسلحة الكيماوية، إنما هو على نفسه. لقد أبعد الإنسان عن نفسه شعور المسؤولية، وتجرد من نزعاته الأخلاقية، فأصبح فعل التدمير عنده آلياً، وبذلك يكون قد وضع أول قدم له في طريق إفناء نفسه. هذه ما ذهب إليه مبكراً واحد من أعظم فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين هو هانز يوناز حيث لفت إلى العواقب الوخيمة الناجمة عن انتصار التكنولوجيا على الأخلاق. إن كوارث الإنسان الكبرى في العصر الحديث لم تكن يوماً بعيدة عن التقنية التكنولوجية، وهذا أمر يجعل من الصعب الفرار من ضرورة إعادة تقييم علاقتنا أخلاقياً مع هذه التقنيات.
لقد كتب أندرس يوماً إلى الطيار الأمريكي كلود ايثرلي بهذا المعنى عندما قال: "عندما نلحق الضرر بإنسان واحد، فإنه من الصعب أن نواسيه أو نخفف عنه الضرر. ولكن في مثل حالتك، فإن هنالك شيئاً آخر. لقد تسببت في مقتل مائة ألف إنسان. فأين ستجد القدرة الكافية والمناسبة لمواساة وعزاء هذه المائة ألف إنسان؟ كيف يمكن أن تتحسر على قتل مائة ألف من الناس؟ مهما كان الجهد الذي ستبذله، فإن معاناتك، وحسرتك لا يمكن أن تكون في مستوى هذه الواقعة".
واليوم، يتذكر العالم مأساة هيروشيما بعد ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن، ويعيش كارثة بيروت لحظة بلحظة، ومع ذلك فإن الجهود المبذولة لإعفاء البشرية من تكبد مثل هذه الخسائر، وهذه الآلام لا تعدو كونها متواضعة ولا تفي بالغرض. ففي السياق اللبناني، على سبيل المثال، سيجري تشكيل لجنة تقصي حقائق لتبحث عن المتسببين المباشرين في هذه الحادثة، وهو إجراء روتيني يسهم فقط في التغطية والتمويه على الأسباب الكامنة.
إن الانتصار الحقيقي الذي حققه الإنسان بهذه الاختراعات القاتلة، سواء القنبلة النووية، أو الأسلحة الكيماوية، إنما هو على نفسه. لقد أبعد الإنسان عن نفسه شعور المسؤولية، وتجرد من نزعاته الأخلاقية، فأصبح فعل التدمير عنده آلياً
وفي السياق النووي فالأمر لا يبدو أنه أقل قتامة عن سابقه. وما يحلو للبعض التغني به من أن العالم لم يشهد إلقاء قنبلة نووية بعد الحرب العالمية الثانية لا يعدو عن كونه تغنياً مضللاً. صحيح أن الأسلحة النووية لم تستخدم منذ ذلك الوقت، إلا أن العالم قد اقترب من شفير الحرب النووية أكثر من مرة أخطرها كانت إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1963.
لقد حبس العالم أنفاسه في العديد من المرات وهو يرى كيف باتت التكنولوجيا النووية تتمدد لتصل إلى العديد من الدول وبالأخص تلك التي تجمع بينها خصومة متأصلة كالهند وباكستان، هذا فضلاً عن بعض الدول "المارقة" مثل كوريا الشمالية، بالإضافة إلى مساعي امتلاك الأسلحة النووية في منطقة هشة كالشرق الأوسط، فبالإضافة لإسرائيل، تسعى إيران والسعودية إلى تطوير برامج نووية، وكذلك دولة الإمارات.
ومع مجيء ترمب، عاد التهديد النووي ليشكل واحداً من أبرز مراكز الصداع العالمية. فالرئيس ترمب ذو التوجهات الشعبوية يعدّ الزعيم الأمريكي الوحيد منذ 60 عاماً الذي لم يتمتع بأي إنجاز حقيقي تجاه الحد من التهديدات النووية بعد أربع سنوات في منصبه.
بل على العكس، يسعى ترمب، حسب ما يرى مايكل هيرش في مقالة له في مجلة فورين بوليسي، إلى تغذية ميزانية الترسانة النووية الأمريكية بحوالي1.7تريليون دولار من أجل تحديث الأسلحة النووية. وهو الأمر الذي يعني أن العالم قد يشهد في المرحلة المقبلة إعادة عجلة سباق التسلح النووي الذي كان سائداً إبان الحرب الباردة.
وقد تابع ترمب نهج سلفه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في الانسحاب من المعاهدات الدولية للحد من التسلح والتي بدأها عام 2001 عندما انسحب من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. فمنذ فترة قريبة، تخلى الرئيس ترمب عن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي وُقّعت بين الولايات المتحدة وروسيا عام1987.
كما فشل ترمب في تجديد معاهدة ستارت الجديدة والتي تعمل على الحد من الترسانات النووية الأمريكية والروسية، وتوفر آليات التحقق المتبادل منها. وسوف تنتهي المعاهدة، في حال لم يتم اتخاذ أي إجراء لتجديدها، في فبراير/شباط 2021.
إن التقنية، ومن ضمنها الآلة بطبيعة الحال، لم تسهم فقط في إبعاد الإنسان عن مسؤولياته الأخلاقية، بل تقوم بإبعاده أيضاً عن شروط السيطرة والتحكم
إن التقنية، ومن ضمنها الآلة بطبيعة الحال، لم تسهم فقط في إبعاد الإنسان عن مسؤولياته الأخلاقية، بل تقوم بإبعاده أيضاً عن شروط السيطرة والتحكم. فمع تطور اللاسلكي، والتحكم عن بعد، والذكاء الصناعي، بات الكثير من المسؤوليات يُلقى على هذه التكنولوجيات التي باتت تتعرف وتتعامل مع مهماتها بطريقة ذاتية عبر منظومة من الرموز تعرف بلغة الخوارزميات. ومع هذا التطور، باتت مساحة المناورة في حال حدوث خطأ تتقلص الأمر الذي يرفع منسوب التهديد والخطر.
فعلى سبيل المثال، يروي وليام بيري، وزير الدفاع الأمريكي السابق في كتابه "رحلتي على شفا الهاوية النووية" أنه وفي أثناء أزمة الصواريخ الكوبية كانت السفن السوفيتية التي كانت تقترب من خط الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة ترافقها غواصات مجهزة بطوربيدات نووية. وبسبب الصعوبات في التواصل مع الغواصات، فقد مُنح القادة العسكريون سلطة تمكنهم من إطلاق الطوربيدات النووية من دون الحصول على إذن من موسكو. وقد تبين لاحقاً أن أحد قادة السوفييت كان ينوي بالفعل إطلاق طوربيداته النووية على المدمرة الأمريكية التي كانت تحاول إجباره على الصعود بالغواصة إلى السطح. وما كان ليتراجع لولا أن ضباطاً آخرين كانوا موجودين على متن الغواصة أقنعوه بالعدول عن هذا الأمر".
إن هذه المساحة في التدخل البشري لتقدير الموقف، وبالتالي تصويب القرارات آخذ بالتقلص مع استمرار عملية ترحيل مسؤوليات السيطرة والتحكم إلى الآلة.