بعيداً عن التفاصيل التي رافقت المفاوضات المتعلقة بمشروع القرار الأكثر جدلاً في تاريخ المنصات الرقمية والتي امتدت على مدار 3 سنوات، فإن القانون الذي أقرته الحكومة الأسترالية يوم الخميس 25 فبراير/شباط سوف يحدث رعباً طويل الأمد في الدوائر الإدارية لدى المنصات الرقمية العملاقة مثل فيسبوك وجوجل.
ومصدر هذا الرعب بالأساس متأتي من أن هذا القانون غير المسبوق سوف يمهد الطريق أمام دول أخرى غير أستراليا لتحذو حذوها وهو الأمر الذي سوف يهدد بشكل حاسم سيطرة هذه المنصات على سوق الأخبار والإعلانات الرقمية التي تدر مليارات الدولارات. كل هذا يجري ليس في الدول السلطوية وإنما في واحة الدول الديمقراطية.
فهذا رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يقول إن بلاده سوف تسعى إلى إصدار تشريع يضمن مشاركة عادلة للعائدات بين عمالقة الويب وبين صناع المحتوى الإخباري ووسائل الإعلام. كما عبر وزراء في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عن تقديرهم للمثال الأسترالي الذي اعتبروه مصدر إلهام لتشريعات مستقبلية مشابهة. في حين نفذت فرنسا بالفعل قانون حقوق الطبع والنشر في الاتحاد الأوروبي بأهداف قريبة الشبه بالقانون الأسترالي.
وبموجب القانون، المسمى قانون المساومة الإلزامية لوسائل الإعلام والمنصات الرقمية the News Media and Digital Platforms Mandatory Bargaining Code، يُطلب من شركة جوجل وفيسبوك التفاوض بشأن اتفاقيات الترخيص مع الناشرين للمحتوى الإخباري الذي يظهر على محرك البحث جوجل وعلى فيسبوك فيد Facebook feed.
لقد تمتعت هذه المنصات الرقمية العملاقة على مدار سنوات طويلة بحرية تامة في الوصول إلى الأسواق العالمية، والهيمنة عليها. لم يعد في سوق الإعلانات الرقمية من منافس لكل من فيسبوك وجوجل بعد أن سيطرا على حوالي 80% من عائدات هذا السوق.
إن تمرير القانون في أستراليا، وانتشاره في دول أخرى كالهند وكندا وأوروبا وغيرها، من شأنه أن يضع حداً لهذه الهيمنة، ولسياسة الاحتكار التي تقف وراءها. فمنع الاحتكار هو الهدف غير المنصوص عليه في القانون الجديد، وإذا وضع هذا التحرك ضمن الإطار العام الذي يسعى إليه المشرعون في الولايات المتحدة وغيرها من الدول والمتعلق بتقليص حجم الاحتكار في سوق تكنولوجيا المعلومات، فإننا نستطيع أن نفهم سبب الخشية الكبيرة التي باتت تتملك أساطين هذا السوق كأمثال سيرجي برين ولاري بايج، ومارك زوكربيرغ، وجيف بيزو، وغيرهم.
أما الضرر الثاني الذي سوف يقع على هذه المنصات الرقمية فيكمن بالعائدات المالية. على مدار عقود طويلة، كان تمويل صناعة الأخبار يأتي إما من خلال دعم حكومي مباشر، أو من خلال الإعلانات التجارية. ومنذ بداية عصر الإنترنت خصوصاً شبكة الويب 2.0 التفاعلية، وصعود نجم منصات التواصل الاجتماعي، بات سوق الإعلانات الإلكترونية بقبضة عمالقة هذا القطاع مثل جوجل وفيسبوك على وجه التحديد. ولذلك تأثر بشكل كبير قطاع صناعة الأخبار، وكان أبرز المتضررين الصحافة الورقية التي بالكاد تستطيع أن تتنفس حالياً. كما تأثر القطاع التلفزيوني وإن كان بقدر أقل.
لذلك يأتي هذا القانون الجديد ليمنح قطاعاً يتداعى سترة النجاة. وفي النظم الديمقراطية، يعتبر الحفاظ على قطاع صناعة الأخبار حيوياً شرطاً من شروط استمرار الثقافة الديمقراطية. ومن هنا جاء القانون بفلسفة تقتضي ضرورة تقاسم العائد المالي من سوق الإعلانات الإلكترونية بشكل عادل بين المنصات الإلكترونية ووسائل الإعلام.
وقد أكد على هذه الفكرة أمين الخزانة الأسترالي جوش فررايدنبرغ، وهو الشخصية الرئيسية في التفاوض مع زوكربيرغ وسوندار بيتتشاي، الرئيسين التنفيذيين لكل من فيسبوك وجوجل على التوالي حيث قال في تغريدة على تويتر "سيساعد هذا التشريع على تكافؤ الفرص، ومكافأة شركات ووسائل الإعلام الإخبارية الأسترالية مقابل جهدها في إنشاء محتوى إخباري أصلي".
ولذلك، وهذا ليس سراً، كانت كبريات وسائل الإعلام من بين أبرز اللاعبين الذين مارسوا ضغوطاً على الحكومة وعلى المشرعين على حد سواء لتمرير هذا المشروع. وفعلا، وبعد التصديق عليه، بدأت تظهر مجموعة من الصفقات بين عمالقة المنصات الرقمية ووسائل الإعلام. من جانبها، أبرمت جوجل، على سبيل المثال، اتفاقيات تجارية مع مجموعة Nine Entertainments، والتي تمتلك شبكة TV، ومحطات راديو، والعديد من المطبوعات قد تصل قيمتها إلى 30 مليون دولار أمريكي سنوياً. كما أبرم عملاق إعلامي آخر وهو شركة Seven West اتفاقاً آخر مع جوجل بالمبلغ السابق نفسه.
هذه الاتفاقيات الإلزامية من حيث القانون، الطوعية من حيث المساومات الثنائية والصفقات بين المنصات الرقمية ووسائل الإعلام جاءت بعد إجراءات عقابية قامت بها بعض هذه المنصات للتخفيف من حدة التشريع. فبدلاً من الدفع على النقر، أصبح الدفع وفقاً للاتفاق. ولا شك أن المبالغ المعلن عنها حتى الآن لا تعتبر مبالغ كبيرة نظراً لحجم العائد الكبير للإعلانات التي تحظى بها الشركات التكنولوجية. على سبيل المثال، تسيطر فيسبوك على حوالي 50% من سوق الإعلانات في أستراليا، بينما بالكاد تصل حصة أقرب المنافسين لها 5%.
استطاعت فيسبوك أن تستخدم أوراق الضغط لديها لتخفيف حدة التشريعات التي صدرت. فبعد أن أوقفت خدمة التصفح الإخباري على منصتها في السوق الأسترالية، تأثر عدد كبير جداً من الأستراليين بهذا الفعل. فالإحصائيات تشير إلى أن 39% من الأستراليين يستخدمون فيسبوك لتصفح الأخبار، وهي نسبة تقترب من النسب العالمية التي تصل إلى حوالي 42%.
ولكن في المقابل لم تستطع فيسبوك المغامرة بهذه الخطوة طويلاً. فيعد أيام معدودة أعادت الخدمة إلى السوق الأسترالية مجدداً. والسبب أن الانتباه، أي إبقاء المستخدمين مشدودين إلى التطبيق من أجل الاستثمار في بياناتهم، قد شهد تناقصاً من على منصة فيسبوك لصالح غيرها من المنصات حيث بات المستخدمون يتوجهون مباشرة إلى التطبيقات الإخبارية مثل شركة البث الوطنية الأسترالية ABC News. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه المنصات قد تغامر بخسارة شيء من عائدها الربحي، ولكنها لا تستطيع أن تغامر بخسارة المستخدمين وانتباههم. إن هندسة الإبقاء على المستخدمين مشدودين للتطبيقات هي جوهر الربح الذي ترتكز عليه هذه الشركات، ولولا هذا الانتباه لما كان للإعلانات كل هذه القيمة.
لقد بدأ مشوار الحد من نفوذ شركات تكنولوجيا المعلومات، وهو مشوار طويل تعي فيه هذه الشركات أنها الطرف الخاسر إزاء الحكومات، ولذلك ما تحاول هذه الشركات عمله هو اختيار أقل الضررين. فبدلاً من خسارة استثماراتها كافة، تساوم على خسارة البعض.