"كنت نائمة، فتحت عيني لأرى جدران الغرفة تتهاوى، للوهلة الأولى اعتقدت أن البناء يتعرض لقصف، لكنني ذكّرت نفسي بأننا لسنا في سوريا، لم أعتقد قط أن ما يحدث هو زلزال".
بهذه الكلمات تستذكر الطالبة السورية هديل العمر اللحظات الأولى لوقوع الزلزالين المدمرين اللذين ضربا تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير/شباط من العام الماضي، وخروجها حية من تحت الأنقاض.
عام كامل مرّ على وقوع "كارثة القرن" في تركيا وسوريا، إلّا أن الناجين منها لا يزالون يحاولون تضميد جراحهم والتأقلم مع شكل حياتهم الجديد الذي فرضته الخسائر في الأرواح إلى جانب الخسائر المادية والمعنوية التي تعرضوا لها.
ألم مشترك
في ٦ فبراير/شباط 2023، وتحديداً في الساعة 4:17 فجراً، وفي ظروف شتاء قاسية وبرد قارس وأمطار غزيرة، ضرب زلزالان متتاليان مركزهما منطقتا بازارجيك وإلبيساتن في ولاية كهرمان مرعش، بشدة 7.7 و7.6 درجة على مقياس ريختر، 11 ولاية تركية ومدناً عدة شمالي سوريا تربطها الحدود مع تركيا.
تشارك الأتراك والسوريون مُصاب "كارثة القرن" سواء في سوريا أو في تركيا، خصوصاً أن الولايات التي شهدت وقوع الكارثة تضم نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري مقيم، حسب إحصائيات الرئاسة العامة لإدارة الهجرة التركية.
الطالبة هديل، من السوريين المقيمين في تلك الولايات، لجأت هرباً من جحيم القصف في سوريا قبل سنوات إلى تركيا مع عائلتها التي اختارت مدينة أنطاكيا مركز ولاية هاتاي جنوبي تركيا للإقامة، ولم تكن تتوقع أن قدر العائلة سيتغير ليلة السادس من فبراير/شباط.
تروي هديل لـTRT عربي أحداث ليلة وقوع الزلزال من بدايتها بأدق تفاصيلها، وتقول: "قبل ليلتين فقط من حدوث الكارثة استقبلنا شقيقتيَّ بتول وبيداء اللتين أنهتا الامتحانات الفصلية في إحدى الجامعات التركية وعادتا إلى أنطاكيا لتمضية عطلة نصف السنة الدراسية معنا، أمضينا يوم الأحد معاً، وقبل أن نخلد إلى النوم كنا نأكل التفاح ونخطط لليوم التالي".
وتضيف: "كل شيء حدث خلال لحظات فقط، استيقظت لأجد نفسي مسلتقية غير قادرة على الحركة وأتنفس بصعوبة لأن سقف الغرفة يغطيني وجزء من وجهي مدفون تحته".
وتلفت الشابة إلى أن شقيقتها أيقظتها لتقول لها إن شقيقتهما بتول التي كانت تنام معهما في نفس الغرفة قد فقدت حياتها، لتجيبها بأن ما يمرون به حلم وسيستيقظون منه، لكن شعور الألم الذي بدأ يزداد وأصوات صراخ الجيران وسكان المنطقة وغياب أصوات بقية أفراد العائلة جعلها تدرك أن الأمر ليس مجرد حلم.
مع صراخ الشقيقتين باللغتين العربية والتركية طلباً للمساعدة وصلت فرق الإنقاذ وعملت على إخراج العائلة من تحت الأنقاض، ومع بزوغ فجر اليوم الأول بدأت تتكشف ملامح الكارثة لتعرف هديل أنها فقدت شقيقاتها الثلاث بتول وبيداء وغفران مع بنات شقيقتها، إلى جانب إصابتها بكسر في الظهر.
دُفنت الشقيقات في مقبرة لضحايا الزلزال في منطقة الريحانية بولاية هاتاي، ونُقلت الشابة على إثر إصابتها لمشفى خاص في ولاية أضنة لتبدأ رحلة علاجها التي لم تنتهِ إلى الآن.
"يوم كيوم القيامة"
تتشابه التفاصيل في حياة معظم الأشخاص الذين كانوا يقيمون في مناطق وقوع الزلزال ليلة حدوثه رغم اختلاف مصايرهم وتفاوت حجم المُصاب الذي حل بهم، حسب القصص التي رصدتها TRT عربي خلال إعداد هذا التقرير.
معظم الأشخاص الذين رووا شهاداتهم عن تلك الليلة أفادوا بأنهم خلدوا إلى النوم نهاية يوم الأحد على أمل استكمال حياتهم الاعتيادية، كالشابة التركية روميسا قل (28 عاماً) المنحدرة من مدينة أنطاكيا.
وتقول روميسا لـTRT عربي إن ليلة الزلزال كانت ليلة اعتيادية، "خلدنا إلى النوم، وعند الساعة 4:17 دقيقة فجراً شعرنا بهزة كبيرة، احتمينا أنا وزوجي بجانب خزانة ملابس كبيرة في الغرفة كنا قد اتفقنا سابقاً على الاحتماء بها في حال حدوث زلزال، لكوننا معتادين حدوث هزات بحكم أننا أبناء منطقة مهددة بالزلازل على الدوام".
"يقولون: في لحظة حدوث الزلزال إذا طبقتم نظرية 'مثلث الحياة' تبقون على قيد الحياة، لكن مثل تلك النظريات لم تكن صالحة في حالة زلزال كهرمان مرعش"، كما تضيف الشابة المقيمة في منطقة إسكندرون.
وتشير إلى أنه بعد هذا الزلزال تغيرت تصوراتها بالكامل لأنه كان زلزالاً غير طبيعي، "لقد اعتدنا الزلازل منذ أن كنا صغاراً، لكن هذه هي المرة الأولى التي نواجه فيها شيئاً كهذا، لقد كان يوماً كيوم القيامة، لم أتصور حجم الدمار الحاصل إلا بعد خروجي من المنزل".
بمجرد أن توقفت الهزة سارعت الشابة للاطمئنان على عائلتها التي تقيم في بناء للعائلة يضم أُسر أعمامها أيضاً، عرفت من خلال رسائل هاتفية معهم وصلت بعد وقت طويل نتيجة انقطاع الاتصالات أن عائلتها بخير رغم انهيار البناء بشكل جزئي وإصابتهم بأضرار طفيفة.
وبعد محاولات الاطمئنان على أفراد العائلة الممتدة لم تستطع روميسا التواصل مع أحد أخوالها الذي كان في حي الجمهوريات بمركز المدينة والذي كان أحد الأحياء التي شهدت دماراً واسعاً وتعذر الوصول إليها بسبب حجم الدمار الهائل وإغلاق الطرق بأنقاض المنازل والأبنية.
ونتيجة جهودها في البحث والتواصل مع منظمات الإنقاذ والمشافي في الولايات المحيطة، وفي اليوم الخامس للكارثة تأكدت الشابة من وفاة خالها وزوجته تحت أنقاض البناء الذي كانوا يقيمون فيه والذي انهار بالكامل مع الأبنية المحيطة به بعد ما تمكنت ابنته من الوصول إلى جثامينهم وإخراجها من تحت الأنقاض.
حجم الكارثة واضطرار الشابة مع عائلتها إلى تَرك مدينتهم ولجوئهم إلى ولاية أخرى جعلها تدرك بشكل أكبر معاناة الناس في الحروب، وتتابع القول: "لقد فقدنا أحباءنا وأصبحنا بلا مأوى. أعتقد أن هذه الفترة قد علمتني معنى التعاطف أكثر وأحسست بقيمة الروتين اليومي. لن تعود حياتنا كما كانت، وأصبح كل صوت يخيفني".
عقبات أمام فرق الإنقاذ
أما حجم المصيبة التي حلت بالشابة ميس الزين (24 عاماً) فإنه "يفوق كل تصوّر"، وحسب ما ترويه كانت في ليلة الزلزال تشعر بوعكة، ولهذا السبب أرسلت طفلها الرضيع ذا العام وتسعة أشهر إلى منزل جدته لتعتني به.
وتقول ميس لـTRT عربي: "أرسلت طفلي إلى منزل جدته لينام، لم أدرك أنني أرسلته للموت"، موضحة أن شقة عائلتها التي انتقلت إليها حديثاً كانت في الطابق الأول في بناء جديد انهار بفعل الزلزال.
وتضيف الشابة التي تسكن في مدينة أنطاكيا منذ سنوات: "خرجنا أنا وزوجي مسرعين للاطمئنان على عائلتي بعد توقف الهزات ونجاتنا، فور وصولي صُدمت بمشهد البناء الذي خُسفت الأرض فيه لتبتلع الطابق الأول الذي تقطن فيه العائلة".
وتردف ميس: "بسبب طريقة انهيار البناء كان من الصعب دخول فرق الإنقاذ التي توالت للمساعدة، لكنها كانت تنسحب بعد فترة قصيرة بسبب غياب المعدات اللازمة للحفر أيضاً، وتخبرنا أنها لو خاطرت بالدخول لربما ينهار البناء بشكل كامل وتُفقد عائلتها مع المنقذين".
"البطانيات دلالة على الحياة"
حتى اليوم الرابع كانت نداءات استغاثة شقيقها مسموعة وكانوا قادرين على التحدث معه، لكن في هذا اليوم وبعد تمكن فرقة إنقاذ قدمت من أوزبكستان من الوصول إلى المصابين تحت الأنقاض خفت الصوت.
وتلفت ميس إلى أنه "عندما كانت فرق الإنقاذ تطلب بطانية وتدخلها إلى تحت الأنقاض كنا نعرف أن الشخص لا يزال على قيد الحياة، وعندما كانوا يُدخلون أكياساً سوداء كنا ندرك أن الشخص الذي وصلوا إليه قد فارق الحياة".
وتستدرك: "طلب فريق الإنقاذ بطانية، وبعد قليل أخرجوا والدي حياً، وعندما وصلوا إلى شقيقي كان قد فارق الحياة وكأن نداءات استغاثته كانت محاولات منه للوصول إلى والدي، خصوصاً أن والدي كان في منطقة من الصعب الوصول إليها".
وتبيّن ميس أن أملها في الوصول إلى طفلها ووالدتها وشقيقتيها لم ينقطع لمدة أربعة أيام، ومع استمرار جهود فرق الإنقاذ بالبحث خرج أحدهم ماسكاً قطعة قماشية ليخبرها بالوصول إلى طفلها، "عندما رأيت القماش بدل الكيس الأسود اعتقدت أني طفلي لا يزال حياً، لكن عندما فتحتها صُعقت من هول ما شاهدت".
بعد ساعات عدّة استطاع الفريق إخراج من تبقى من عائلة ميس من تحت أنقاض منزلهم المدمر، والدتها وشقيقها وطفلها وشقيقتيها اللتين كانت إحداهما تحضّر لزفافها بعد فترة وجيزة.
تروي الشابة أحداث الأيام الأربعة، وتقول: "أعتقد أنني جبل صامد والله منحني الصبر، يقولون لي الوقت يداوي الجراح ويصّبر على الفقد، لكنني مع مرور الوقت أفتقد عائلتي بشكل أكبر، رحيلهم ترك فراغاً هائلاً بداخلي لا يستطيع ملؤه أي شيء آخر".
آلاف الضحايا
تجاوز عدد ضحايا الزلزال في تركيا 50 ألف شخص، بينهم نحو 6 آلاف و800 شخص مواطن أجنبي، معظمهم من اللاجئين السوريين الذين يقيمون في الولايات الجنوبية الحدودية مع سوريا.
كما تسبب الزلزالان اللذان تبعهما آلاف الهزات الارتدادية العنيفة بإصابة أكثر من 100 ألف شخص وانهيار نحو 7 آلاف و248 بناء بشكل كامل، وتضرّر أكثر من نصف مليون بناء، إلى جانب الأضرار في البنية التحتية للاتصالات والطاقة والخسائر المالية الكبيرة، حسب تقارير رسمية تركية.
وبلغ عدد الضحايا السوريين داخل سوريا نحو 4585 شخصاً، حسب ما وثقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان.