تونس وحرب الاستنزاف الطويلة
للشهر الثاني على التوالي لم تخرج تونس من الوضعية المعقدة التي أنتجها الانسداد السياسي بين رؤوس السلطة، في ظلّ تشبّث كل طرف بموقفه حول بقاء الحكومة الحالية (الثالثة في أقلّ من عامٍ ونصف العام) من عدمه.
تونس (AA)

تعطّل قنوات الحوار بين رموز الدولة أدخل البلاد في صراع مفتوح على كل الواجهات، تسارعت على إثره الأحداث والتسريبات، ما ينذر بمرحلة غير مستقرة قد تنتهي إلى توافق أو انتخابات أو استمرار الصراع، وربما تحرك الشارع.

تسريبات تورّط الرئيس

في خضم هذا الصراع السياسي ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً بتسجيلات صوتية لرئيس الكتلة الديمقراطية الداعمة لرئيس الجمهورية (التيار الديمقراطي وحركة الشعب) سرّبها النائب المستقل راشد الخياري، تضمنت اتهاماً خطيراً للرئيس قيس سعيّد من خلال تحكّمه وسيطرته على القضاء عبر زوجته التي تعمل قاضية .

وتحدّث عمار في التسريب الصوتي عن تفكيك القضاء، وابتزاز يُمارَس على كتلة "قلب تونس" الداعمة للمشيشي من أجل التصويت على سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي مقابل خروج القروي من السجن، موضحاً أنّ قاضي التحقيق الذي أصدر بطاقة إيداع بالسجن في حق نبيل القروي على علاقة بمستشارة الرئيس نادية عكاشة.

وأكد الخياري امتلاكه "حقائق صادمة" تكشف التآمر على الدولة، مشيراً إلى أنّه سينشرها تباعاً، مع تسريبات عن اشتغال جهات تسعى للتخلص من راشد الغنوشي عن طريق عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر (محسوب على نظام بن علي)، ليتم فيما بعد التخلص منها.

محتوى التسريبات اعتبره النائب عن التيار الديمقراطي الأسعد الحجلاوي في تصريحه لـTRT عربي، مجرد حديث عادي بين نائب وضيفه، لا يمثل خطراً على استقرار البلاد، ولا يمس من الأمن القومي، مشيراً إلى أنّ الجهة التي سرّبت التسجيل تعمّدت قصّه لتحريف المعنى، وأنّه ابتزاز سياسي ليس أكثر.

من جانبه، أكّد النائب عن كتلة قلب تونس الصادق جبنون لـTRT عربي، أنّ هذه التسريبات كانت بمنزلة الصدمة لما آلت إليه الأمور في ظلّ التصعيد السياسي الذي تشهده تونس، وتحويل وجهة مؤسسات الدولة لتصفية الحسابات السياسية.

ولفت جبنون إلى وجود رغبة في الاستحواذ على مؤسسات الدولة، وتوجيه المؤسسة القضائية المستقلة لضرب المنافسين السياسيين، خصوصاً أنّ الرئيس قيس سعيّد عبّر في أكثر من مناسبة عن رغبته في المرور إلى نظام رئاسي، مطالباً بضرورة فتح تحقيق جدي في التسريبات.

صراع بين رموز السلطة

هذه الصراعات أعقبت التعديل الوزاري الذي أدخله رئيس الحكومة الحالي على حكومته دون الرجوع إلى رئيس الجمهورية، الذي رفض بدوره دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية ومباشرة عملهم، بدعوى عدم احترام الدستور من الناحية الإجرائية، ووجود وزراء تحوم حولهم شبهات فساد.

ويشترط سعيّد ضرورة استقالة الحكومة الحالية لمواصلة الحوار مع حركة النّهضة (صاحبة الأغلبية 54 نائباً من جملة 2017)، من أجل حلّ الأزمة الحالية، بعدما فشلت كل محاولات الوساطة والمبادرات في إيجاد مخرج لها.

وفي الوقت الذي يتمسك فيه سعيّد باستقالة المشيشي، يعتبر الأخير أنّ "استقالته أمر غير مطروح، لأنّ البلاد بحاجة إلى حكومة واستقرار"، مدعوماً بتحالف برلماني تقوده حركة النهضة التي يترأسها رئيس البرلمان راشد الغنوشي، وحزب قلب تونس.

هذا وأقر سليم بسباس النائب عن حركة النّهضة لـTRT عربي بوجود تضارب بين رؤوس السلطة، معتبراً أنّها الفرصة الأخيرة بالنسبة إلى الطبقة السياسية لإيجاد مخرج للوضع المتأزم، خصوصاً بعد أن تلقت تونس رسائل سلبية بمنزلة الأوراق الحمراء من قبل المانحين الدوليين، وحتى من طرف جيران تونس الذين استطاعوا الخروج من وضع الاحتراب، والاهتداء إلى الطريق الصحيح.

واعتبر بسباس أنّ انتخاب قيس سعيّد رئيساً للجمهورية ليس فقط سبب الأزمة الحالية، بل نتيجة لها ولفشل تعاطي الأحزاب السياسية مع مشاغل الشعب، وهي بمنزلة الرسالة للطبقة السياسية وموقف سلبي منها، مشدّداً على ضرورة الجلوس على طاولة الحوار في أسرع وقتٍ قبل أن يغرق المركب بمن فيه.

في المقابل، أرجع محسن العرفاوي النائب عن حركة الشعب سبب الانسداد الذي تعيشه تونس اليوم إلى رغبة المشيشي في المرور بقوّة إلى التعديل الحكومي الذي أملاه عليه حزامه السياسي المتكوّن من حركة النّهضة وقلب تونس، على الرغم من تعيينه لوزراء تحوم حولهم شبهات فساد وقضايا تضارب مصالح.

واعتبر العرفاوي أنّ الحلّ الوحيد لخروج تونس من أزمتها هو استقالة المشيشي، للتعجيل بإطلاق حوار وطني ينتهي إلى تكوين حكومة وحدة وطنية في أسرع وقت.

الشعبوية خطر يهدد الديمقراطية

ومنذ انتخابه لم ينفك رئيس الجمهورية قيس سعيّد يلقي خطابات غريبةٍ، استبطنت دائماً عداءً للنخبة السياسية الحالية، استعمل فيها جميعاً معاجم الحرب والتخوين والوعيد، خصوصاً المؤامرات في الغرف المظلمة.

وعلى الرغم من مرور نحو 15 شهراً على وجوده في قصر قرطاج الرئاسي، لم يتوقف قيس سعيّد عن اللجوء إلى تلك المفردات الحربية في حديثه عن الأزمة السياسية التي تعيشها بلاده، ووزّع الاتهامات يميناً وشمالاً دون ذكر طرفٍ بعينه.

تعليقاً على ذلك اعتبر المحلل السياسي بولبابة سالم في تصريحه لـTRT عربي، أنّ تونس باتت تعاني من تزايد وتيرة الشعبوية، لافتاً إلى وجود بعض القوى الشعبية في تونس تبيع الوهم للناس وهي عاجزة عن تقديم حلول، وأنّ هذه القوى تضمّ أحزاباً وشخصياتٍ سياسية وحتى بعض مؤسسات الدولة، في ظلّ إلقاء خطابات وتقديم وعود لا تليق بالدولة.

بولبابة أضاف أيضاً أنّ النخبة التونسية تعاني من وجود قوى فاشية من أسوأ ما خلّف النظام القديم، مهمتها ترذيل أهمّ مؤسسة في الدولة (البرلمان)، ونشر خطاب عنيف لا يؤمن بالديمقراطية، في إشارة إلى الحزب الدستوري الحر الذي تقوده عبير موسي.

هذا وحولت بعض الأحزاب مؤخراً الشارع إلى حلبة صراع في ما بينها لحل خلافاتها التي عجزت عن معالجتها داخل البرلمان، وإيجاد حل توافقي داخلي ينهي أزمة الحكم، حيث قاد الحزب الدستوري الحر تحركاً احتجاجياً واسعاً في محافظة سوسة للمطالبة بحقوق الشعب في التنمية، ورفض السياسات المتبعة سواء من رئيس الحكومة هشام المشيشي أو من رئيس البرلمان راشد الغنوشي.

ونظّمت حركة النهضة على إثر ذلك مسيرةً حاشدةً، من أكبر المظاهرات في تونس منذ ثورة 2011، شارك فيها عشرات الآلاف من أنصارها، رفعت خلالها شعار "الدفاع عن الشرعية والبرلمان"، تزامنت مع انطلاق مظاهرة أخرى مضادة دعا إليها حزب "العمال" اليساري، تنديداً بما وصفه بـ"عبث المنظومة القائمة" خلال السنوات العشر الأخيرة ومسؤوليتها عن الأزمات المختلفة في البلاد.

ويرى الأستاذ في العلوم السياسية إبراهيم العمري في تصريحه لـTRT عربي، أنّ الأحزاب السياسية باتت تعيش نوعاً من الصراع غير الواقعي بعيداً عن هموم التونسيين وانشغالاتهم، بهدف تحقيق مصالحها الشخصية، وهو ما يُعتبر ضرباً من ضروب الشعبوية والمزايدة السياسية التي تسيء إلى ديمقراطية تونس الناشئة.

ولفت العمري إلى أنّ هذه الأحزاب مثّلت جزءاً من المشكل، خصوصاً أنّها تتجه إلى الصراعات بدل البحث عن حلول فعلية، إلى جانب وجود أطراف تسعى إلى العودة إلى الحكم، فيما تبحث أخرى عن الحكم بشكلٍ منفردٍ.

TRT عربي