لا تزال فرنسا تواجه اتهامات من منظمات حقوقية دولية حول استخدام أسلحتها في انتهاكات ضدّ المدنيين في اليمن، وقمع معارضين في أماكن أخرى، في ظل نفي حكومي فرنسي.
تقرير أعدّه موقع "دسكلوز" الفرنسي المتخصص في الصحافة الاستقصائية كشف عن مذكرة مصنَّفة "سرية" تتعلق بالدفاع، وهي عبارة عن وثيقة من 15 صفحة كتبها ضباط من إدارة الاستخبارات العسكرية الفرنسية التابعة لوزارة الدفاع، حول الوضع الأمني في اليمن.
تتحدث الوثائق من خلال الخرائط والمعلومات التي توردها بوضوح عن حجم السلاح الفرنسي الذي تستخدمه الدول التي تقود الحرب في اليمن، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في قتالها ضد حركة أنصار الله المعروفة باسم جماعة الحوثي.
وتبيّن خريطة مديرية الاستخبارات العسكرية بعنوان "شعب تحت تهديد القنابل"، أن ما يقارب 500 ألف شخص قد يكونون معرضين لضربات مدفعية محتملة، بعضها من مدافع فرنسية الصنع، إضافة إلى استخدام مدافع ودبابات فرنسية في الصراع اليمني.
وبينت المذكرة استخدام فرقاطات وغواصات بحرية إلى جانب طوافات كلها فرنسية الصنع، لتشديد الرقابة على المعابر، وبالتالي يساهم التحالف من خلالها في تضييق الخناق على المدنيين اليمنيين والتسبب بمجاعة في المنطقة.
وأشارت مواقع إعلامية إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئاسة الوزراء، تلقَّوا نسخة من المذكرة، وذلك قُبيل انعقاد مجلس الدفاع الذي خُصص للحرب على اليمن، والذي عُقد في قصر الإليزيه، في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
صناعات فرنسا العسكرية
ويتساءل الكثيرون حول عدم توجيه فرنسا تحذيراً إلى حلفائها بعدم استخدام السلاح الفرنسي لقمع المعارضين واستهداف منشآت مدنية كما في مصر واليمن. لكن يبدو أن المسألة أكبر من ذلك، وتتعلق بالمنافع المالية التي تجنيها فرنسا من خلال بيعها للسلاح.
تشير الإحصائيات إلى أن صادرات السلاح الفرنسي تضاعفت أربع مرات بين عامَي 2012 و2018 في ظل تنافس حادّ بين فرنسا وروسيا لاحتلال المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة على مستوى سوق السلاح العالمية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الصناعة العسكرية تأتي في مقدمة الصناعات الاستراتيجية التي تُسهِم بقسط وافر في دعم الموازنة العامة للدولة الفرنسية، بعد بطء النمو في قطاعات أخرى مثل صناعة السيارات.
ووفق تقرير أعده معهد ستكهولهم الدولي لأبحاث السلام صدر في مارس/آذار الماضي، تبيّن أن المنطقة العربية استحوذت على 44% من مبيعات السلاح الفرنسية، وكانت مصر أكبر مستورد للسلاح الفرنسي بالمنطقة بنسبة 28%، واحتلت السعودية المرتبة الثالثة بنسبة 7.4%.
وتؤكّد المعطيات الصادرة عن المعهد الذي يتخذ من السويد مقراً له، أن مصر كانت ثالث مستورد للسلاح في العالم خلال الفترة بين 2013 و2016، إذ شكّلت فرنسا المزوّد الأول لها.
وسبق أن أظهر تقرير حكومي فرنسي مضاعفة مبيعات السلاح للشرق الأوسط في 2017، إذ تلقت الدول العربية ما نسبته 60% من مجموع مبيعات الأسلحة الفرنسية.
بالتالي، فإن فرنسا يمكن أن تضع نفسها في موقف صعب إذا ما قررت انتقاد زبائنها الكبار في سوق السلاح.
وفي تصريحات لـTRT عربي، أشار المحلل المختص في الشأن الأوروبي حسام شاكر، إلى جهود تُبذل في البرلمان الأوروبي للحد من توريد السلاح للدول التي تنتهك حقوق الإنسان، ولكن تلك الجهود لا تُلزم الحكومات، ولا تجابه حجم المصالح الكبير الذي يربط دولاً أوروبية بأخرى في الشرق الأوسط.
نفي فرنسي
وتنفي الحكومة الفرنسية الاتهامات المتعلقة بضلوعها غير المباشر في انتهاك حقوق الإنسان في اليمن حيث أكدت أن "الأسلحة المملوكة لقوات التحالف موضوعة بأكثريتها في مواقع دفاعية خارج الأراضي اليمنية لا على خط الجبهة"، مضيفة أنه "ليس لديها علم بسقوط ضحايا مدنيين جراء استخدام هذه الأسلحة على مسرح الأحداث في اليمن".
وجاء نشر الموقع الفرنسي "دسكلوز" للمذكرة العسكرية تأكيداً لما كانت تنادي به مؤسسات حقوقية منذ أشهر، ومنها عشر منظمات غير حكومية، بما فيها منظمة العفو الدولية، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، وهيومن رايتس ووتش.
وقالت تلك المنظمات في بيان "إنها المرة الأولى التي يؤكّد فيها مصدر رسمي، وهو الاستخبارات العسكرية الفرنسية، أن المعدات العسكرية الفرنسية التي اشترتها السعودية والإمارات تشارك في حرب اليمن، مع ما يتضمنه استخدامها من مخاطر كبيرة في الهجمات غير القانونية ضد المدنيين".
وعلقت مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في فرنسا بينيديكت جانيرو عبر تويتر قائلة "لا يمكن للحكومة الاستمرار في إنكار تواطئها في جرائم حرب"، داعية فرنسا إلى "وقف مبيعاتها إلى بلدان التحالف السعودي الإماراتي والتعامل بشفافية كاملة".
انتقادات لباريس
عملت فرنسا وبشكل متكرر على تصدير نفسها كواحة لحقوق الإنسان في أوروبا والعالم، وتواصل انتقاداتها للدول الأخرى إذا ما قامت بأعمال توحي بانتهاكات في حقوق الإنسان، لكن الانتقادات لباريس في الفترة الأخيرة بلغت حدّاً غير مسبوق.
فقد وجهت منظمات حقوقية ودول أوروبية صديقة اتهامات إلى فرنسا حول سلوكها المتعلق بدعم أنظمة ديكتاتورية، وصمتها كذلك عن انتهاكات حقوق الإنسان في تلك البلدان، نظراً إلى المصالح الاقتصادية وعلى رأسها صفقات السلاح الفرنسي.
وكانت منظمة العفو الدولية اتهمت الحكومة الفرنسية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالاستخفاف بالقانون الدولي عبر استمرارها في تصدير أسلحة تُستخدم في عمليات قمع مميتة في بعض الدول مثل مصر.
واستخدمت قوات الأمن المصرية ناقلات جنود مُدرَّعة، زوَّدتها بها فرنسا، في تفريق مظاهرات وقمع المعارضة، بشكل عنيف ومتكرر، مما أسفر عن وقوع جرحى وقتلى.
وفي ظل اهتمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالسلاح الفرنسي منذ 2013، يبدو أن استراتيجية النظام المصري، قد لاقت نجاحاً في شراء صمت باريس عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام ضد المعارضين.
وقالت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية، تعقيباً على المذكرة الاستخباراتية التي سربها موقع "دسكلوز"، إن الوثائق المسربة تقدم دليلاً واضحًا على أن المعدات العسكرية الفرنسية، التي زُوّدت بها السعودية والإمارات، تُستخدم على نطاق واسع في النزاع باليمن الذي يتسبب وقوع أعداد كبيرة من الضحايا بين المدنيين.
وحثّت منظمات فرنسية غير حكومية، وبعض النواب، الرئيس الفرنسي على تقليص الدعم للدول العربية المشاركة في تحالف تقوده السعودية في اليمن.
المبادئ مقابل المصالح
ويبدو أن الاتهامات والنداءات الموجهة من المنظمات الحقوقية لن تثني فرنسا عن مواصلة صفقات السلاح مع أنظمة متهمة بقمع المعارضين واستهداف المدنيين.
فقد اتجه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى انتقاد ألمانيا ردّاً على تمديد الأخيرة قراراً بتجميد صفقة بيع سلاح للسعودية، ودعاها إلى تليين موقفها بشأن تصدير الاسلحة، معتبراً سياستها في هذا المجال بالغة التشدد.
ويؤثّر قرار التجميد الألماني بشكل مباشر على صادرات الصناعة العسكرية الفرنسية، لأنها تضم مكونات ألمانية، حيث يتشارك البلدان بمشروعات كبرى في مجال الدفاع.
وفي هذا السياق يؤكد شاكر على احتمالية وجود ضغوط من بريطانيا وفرنسا قد مورست على ألمانيا للحَدّ من موقفها بخصوص صفقات السلاح.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون امتنع عن انتقاد حالة حقوق الإنسان في مصر في أثناء زيارته لها في 2017، حين قال إنه لم يأتِ ليقدم دروساً لأحد، بل إنه يملك عقوداً، في إشارة إلى عقود مع مصر في مجال الدفاع.
وأكّد شاكر أن أوروبا تواجه إشكالية تتمثل في أخلاقيات بيع السلاح، إذ إن بعض الدول الأوروبية ليس على استعداد للتفريط في واحد من أضخم القطاعات التي تُدِرّ مليارات الدولارات على الاقتصاد الأوروبي، وهو قطاع الصناعات الدفاعية.