ما زال السجين السياسي السابق رشاد جعيدان الناشط بحركة النهضة، يحلم برؤية جلّاده وهو يعترف بتعذيبه واغتصابه، خلال 13 عاماً قضاها بين مختلف السجون التونسية، بتهمة تكوين وفاق والقيام بأعمال إرهابية والتحضير لانقلاب على نظام بن علي، رفقة 10 من أنصار الحركة.
يقول جعيدان لـTRT عربي إنّه "قضى 40 يوماً في سجون وزارة الداخليّة، واستُجوب بدون توقّف من أعوان الأمن، وإنّ الأعوان أجبروه على توقيع اعترافات خاطئة للقضية، تعرّض خلالها للضرب بصفة منتظمة بالهراوات والتقييد بالسّلاسل".
ضربٌ وحرقٌ واغتصابٌ
تعرّض جعيدان بحسب تأكيده لـTRT عربي لـ17 ساعةً متواصلةً من التحقيق، إلى أن أُغمي عليه، وتعرّض خلالها إلى وضعيّة "الدجاجة المصليّة" والضرب بعصا على يديه وساقيه ورأسه وركبتيه، وهو ما تسبب له باقتلاع بعض أظافر يديه وساقه، كما تعرّض للضّرب بعصا مسطحة على أعضائه التناسلية وإلى الحرق بالسجائر في اليد وأماكن أخرى حسّاسة، مما تسبب له في نزيف، فضلاً عن إغراق رأسه في سطل مملوء بالفضلات البشرية، لافتاً إلى تعرّضه أيضاً إلى صدمات كهربائية في ظهره ويديه وأماكن مختلفة من جسمه.
ما يؤلم رشاد جعيدان أنّ جلاده لم يعترف بما فعله به، بل أنكر برغم الأدلة وتباهى بفعلته، وأنّ القضاء لم يُنصفه بعدُ في استرجاع حقوقه المعنوية، حيث ما زال ملفّه يتجوّل بين المحاكم دون نتيجة، آخرها تلك التي نظرت فيها الدائرة المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية في تونس الخميس 25 مارس/آذار 2020، دون أخذ قرار فيها بسبب غياب المتهمين.
جعيدان يقول برغم الخيبة، إنّ الجلادين الذين انتهكوا جسده وصادروا حريته، فوتوا على أنفسهم فرصة مهمة للمصالحة وكشف الحقيقة، وهو ما سيجعلهم يمرون مباشرةً إلى المحاسبة، بعد انتهاء وقت المصالحة، مشدّداً على أنّه لن يدخّر جهداً في استرداد حقوقه، وتمسّكه بالعدالة والمحاسبة.
في الطرف الآخر، تنتظر السجينة السياسية السابقة حميدة العجنقي اعتذاراً رسمياً من الدولة على انتهاكات الماضي، علّ ذلك يردّ شيئاً من اعتبارها الذي دهسه نظام بن علي حين أوقفها وهي ما زالت طالبة لم يتجاوز عمرها التاسعة عشر، فقط لأنّها كانت ترتدي الحجاب.
تقول لـTRTعربي إنّ 6 أعوان بزي مدني اقتحموا منزل والديها، واقتادوها إلى أحد مقار الاستعلامات، بعد نزعهم جمیع ملابسھا وربط یدیھا وساقیھا، ووضعها وھي شبه عاریة في وضعیّة "الدجاجة المصلیّة"، موضحة أنّ التعلیق استمر لمدة 3 ساعات ثم ینزلونھا ویعیدونھا مجدداً، ثم یعتدون علیها بالضّرب بواسطة عصا على مستوى الرأس.
العجنقي تعيد سرد الأحداث وكأنّها تموت عدّة مرّات في كلّ لحظة تمرّ تلك الأحداث في ذاكرتها، وتتابع: "لقد هددوني بالاغتصاب وفك بكارتي بواسطة العصا نفسها التي كانوا يضربونني بها، إنْ لم أُدلي لھم باعترافات حول مكان وجود أحد قياديي حركة النّهضة، كان بحالة فرار".
تشدّد العجنقي أنّها متمسّكة بضرورة محاسبة الفاعلين، وتتمنى إصدار حكمٍ وحيدٍ ليفتح الباب أمام المحاسبة الحقيقية، داعيةً القضاة إلى التحرّك لإجبارهم على حضور جلسات المحاكمة، كما كانوا يجبرونهم على دفع ثمن أخطاء وتُهمٍ كيديّة لم يقترفوها.
العجنقي تريد أن يعتذر جلادها منها، لأنّها تريد فعلاً أن تفتح قلبها وتتجاوز تلك الظلمة من حياتها، وترى أنّهم يفوّتون على أنفسهم فرصة مصالحتهم، لأنّها إنْ "توفيّت لن يصفح أولادها عنهم".
"لم يعد في العمر متسعٌ مِن الوقت للمصالحة"
وكان مسار العدالة الانتقالية في تونس قد انطلق إثر الثورة مباشرة، بموجب مراسيم منها العفو العام والمصادرة (2011) ولجان وقتية منها لجنة تقصي الحقائق حول ملفات الفساد والرشوة (2011) وتعزّز مع تركيز وزارة مختصة في العدالة الانتقالية (2012-2013) قبل تبلوره في تصوّر عام في قانون العدالة الانتقالية (2013) الذي أنشأ هيئة الحقيقة والكرامة (2014-2019)، دون اعتبار التعثّر الذي شهده.
من جانبه، عبّر العلمي خضري أحد ضحايا نظام بن علي وعضو الشبكة التونسية للعدالة الانتقالية ورئيس جمعية الكرامة وضحايا الانتهاكات، عن تمسكه بمحاسبة الجناة والجلادين، وبضرورة أن يُقدِّموا اعتذارهم عما اقترفوه، لأنّ العمر لم يعد يسمح بالمصالحة، خصوصاً في ظلّ محاولات المنسوب إليهم الانتهاك في هذه القضايا الإفلات من العقاب، عبر تعمّد الغياب المتواصل، أو الحضور المتقطّع مع تغيير المحامين بين جلسة وأخرى وتعمّد تأجيلها بدعوى "الاطلاع على الملف".
خضري عبّر أيضاً في تصريحه لـTRT عربي عن امتعاضه مِن تأخّر القضاء في إصدار أحكامه في قضايا انتهاكات العهدين السابقين (عهد زين العابدين بن علي وعهد الحبيب بورقيبة) بعد مرور 3 سنوات على بدء النّظر في هذه القضايا، محذّراً من أنّهم سيلجؤون إلى القضاء الدولي في حال تواصل التأخر في إصدار الأحكام.
كما نبّه إلى عدم بلوغ الاستدعاءات أصحابها حتى مِن الضحايا وتعطّل إصدار بطاقات الجلب في حقّ المتّهمين، لافتاً إلى أنّ إشارات حمراء باتت تصلهم في شكل رسائل بعدم الجديّة في النظر لمثل هذه القضايا، مرجّعاً هذا التعطيل إلى تدخّل النقابات الأمنية وتهديدها بعدم حماية المحاكم أثناء النّظر في قضايا الانتهاكات، فضلاً عن التغيير المستمر للقضاة المعنيين بمحاكمة المتهمين.
هيئة الحقيقة والكرامة
وبحسب منظمة العفو الدولية، عقدت الدوائر القضائية المتخصصة، على مدى العامين الماضيين، ما لا يقل عن 23 جلسة استماع في عدّة محاكم، وأدلى عشرات الضحايا والشهود بشهاداتهم في المحكمة، وغالباً في غياب المتهمين، ومع ذلك، لم تصل أيّ قضيّة إلى مرحلة المرافعة حتى الآن، ولم يصدر حكمٌ أو قرارٌ قضائي واحد.
محاكم مثلت بمثابة نتاج جلسات استماع علنية عقدتها هيئة الحقيقة والكرامة، التي نجحت في 26 مارس/آذار 2019 بنشر تقريرها، الذي حللت فيه وكشفت الشبكات المؤسسية التي أتاحت حدوث انتهاكات حقوق الإنسان على مدى 5 عقود، للعموم.
ووثّقت الهيئة الدّور الذي لعبه الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومسؤولون كبار آخرون في التعذيب والاحتجاز التعسفيّ والعديد من الانتهاكات الأخرى في حقّ آلاف التونسيين، بقطع النظر عن الانتقادات التي واجهها عملها الذي انطلق منذ 27 مايو/أيار 2015.
وفي الوقت الذي تؤكّد فيه عضو الهيئة سابقاً علا بن جمة في تصريحها لـTRT عربي، أنّ الهيئة كانت حجرَ أساسِ العدالة الانتقالية، وأنّ التونسيين وثقوا بها وقدّموا لها حوالي 63 ألف ملف برغم الصعوبات التي واجهتها، يرى الحقوقي المهتّم بملف شهداء الثورة وجرحاها عماد بن غازي أنّ مسار العدالة الانتقالية تعثّر منذ بدأت الهيئة العمل عليه بسبب التعطّيلات التي أثارها رموز النظام السابق، وبعضٌ مِن رموز النظام الحالي.
وأكد بن غازي في تصريحه لـTRT عربي أنّ الماضي ما زال "يقطّع" مسار الثورة، وأنّ الحكومات المتعاقبة على اختلافها لم تستطع التسريع في هذا المسار، بل كانت دائماً تضع ساقاً مع الثورة، وأخرى مع النظام السابق، داعياً إلى ضرورة التّسريع في محاسبة الجلادين، حتى لا يعيد التاريخُ نفسَه.