آخر هذه الضغوط هو مصادقة مجلس النواب الأمريكي، يوم الثلاثاء، على مشروع قانون يدعو لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية لطلبها إصدار مذكرة توقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين. وأثارت هذه الخطوة رد فعل الأمم المتحدة التي اعتبرت أنها "تهديد ومضايقة".
وقال ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، إن "المنظمة الدولية تعارض تهديد ومضايقة جميع المسؤولين الدوليين، بمن فيهم موظفو المحكمة الجنائية الدولية".
والولايات المتحدة وإسرائيل ليستا عضوتين بالمحكمة الجنائية الدولية، إلّا أن واشنطن تتعامل مع المحكمة بـ"ازدواجية معايير"، وذلك لدعمها المحكمة في ملف محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية الحرب في أوكرانيا، إذ أمر بايدن حينها إدارته بالبدء في تبادل الأدلة حول جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا مع المحكمة الجنائية الدولية.
وسبق أن وصف نتنياهو قرار المحكمة الجنائية الدولية بعد أن رفعت أوامر اعتقاله، بأنها "فضيحة سياسية"، معتبراً أن "تهديد اعتقال جنود ومسؤولين في الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط والدولة اليهودية الوحيدة في العالم أمر مثير للغضب".
وأبرزت أوامر الاعتقال الصادرة بحق سياسيّين إسرائيليين خطوةً غير مسبوقة من المحكمة الجنائية الدولية، إذ تستهدف للمرة الأولى شخصية رفيعة المستوى من دولة تُعدّ حليفة وثيقة للولايات المتحدة الأمريكية.
ما تفاصيل التشريع الذي أقره "النواب" الأمريكي؟
مشروع "قانون العمل المضاد للمحكمة غير الشرعية" الذي وافق عليه مجلس النواب الأمريكي بدعم من كل الجمهوريين تقريباً (الذين يشكّلون الأغلبية في المجلس) ونحو خُمس الديمقراطيين، سيضع قيوداً على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية الذين هم على صلة بالقضية لكنه لا يفرض أيَّ عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية نفسها.
ووفق صحيفة نيويورك تايمز، ينص مشروع القانون على إجبار الرئيس جو بايدن على منع دخول الولايات المتحدة وسحب التأشيرات لهؤلاء الأشخاص، و وتقييد أي معاملات عقارية لهم، وفرض قيود مالية على أي شخص في المحكمة متورط في محاولة التحقيق أو القبض أو الاحتجاز أو محاكمة "الأشخاص المحميين" أو حلفاء الولايات المتحدة.
ويعرِّف القانون "الأشخاص المحميين" بأنهم الأمريكيون أو الأجانب الذي يحملون جنسيات دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو الدول الحليفة الرئيسية من خارج الناتو التي لم توافق على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
وقال مستشارو بايدن إنه "معارض بشدة" لهذا الإجراء لأنه سيفرض عقوبات على مجموعة واسعة من المسؤولين، بمن في ذلك موظفو المحكمة وأي شهود متورطين في قضية محتملة.
لكن هذا الإجراء يعكس الغضب واسع النطاق بين الحزبين في واشنطن بعد أن أعلن المدعي العام الأعلى للمحكمة في أواخر الشهر الماضي أنه سيطلب توجيه الاتهامات إلى القادة الإسرائيليين .
وجاء التصويت في مجلس النواب الأمريكي بأغلبية 247 صوتاً مقابل 155، وانضم 42 ديمقراطياً إلى الجمهوريين في دعم التشريع. ولم يكن هناك تصويت بالرفض من الجمهوريين.
وحسب وكالة "رويترز" فإنه من غير المتوقع أن يصبح هذا الإجراء قانوناً، لكنه يعكس الدعم المستمر لإسرائيل في الكونغرس وسط انتقادات دولية لحربها في غزة.
ويعد مشروع القانون "رسالة" من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، إذ قال رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون، في بيان: "تقف الولايات المتحدة بحزم إلى جانب إسرائيل وترفض السماح للبيروقراطيين الدوليين بإصدار أوامر اعتقال لا أساس لها للقيادة الإسرائيلية بتهمة ارتكاب جرائم كاذبة".
كان البيت الأبيض قد انتقد الشهر الماضي قرار المحكمة الجنائية الدولية طلب إصدار أوامر الاعتقال، ورأى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، الأسبوع الماضي، أن العقوبات ليست "النهج الصحيح".
ويعكس القانون وجهة نظر الولايات المتحدة في إجراءات المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل التي تراها "غير شرعية ولا أساس لها من الصحة" و"تخلق سابقة ضارة تهدد الولايات المتحدة وإسرائيل وجميع شركاء الولايات المتحدة الذين لم يخضعوا لولاية المحكمة الجنائية الدولية"، حسب ما نقلته وسائل إعلام أمريكية.
هل يمكن أن تؤثر الضغوط في عمل المحكمة؟
كان عام 2021 مهماً على صعيد ولاية المحكمة الجنائية على الأراضي الفلسطينية، عندما قررت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة في 5 فبراير/شباط تأكيد الاختصاص الإقليمي للمحكمة على فلسطين وامتداده إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1967 ليشمل الضفة الغربية والقدس إضافةً إلى قطاع غزة، وقد جاء هذا القرار استجابةً لطلب المدعية العامة، فاتو بنسودة، لإصدار قرار قضائي بشأن نطاق الاختصاص الإقليمي للمحكمة في فلسطين.
وفي هذا السياق، يوضح الباحث الفلسطيني والكاتب في الشأن القانوني وائل المصري أنه منذ أن انضمَّت فلسطين إلى نظام روما الأساسي بدا واضحاً أن الاعتبارات السياسية تَغلُب على عمل الادعاء العام للمحكمة، كون التحقيقات المتعلقة بالحالة في فلسطين تأخرت.
ويقول المصري لـTRT عربي إن "جميع الإجراءات اتسمت بالبطء، وربما لولا الحرب الدائرة في قطاع غزة لما كنّا سنتوقع أن يطلب المدعي العام إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين".
ويبدو أن خشية المدعي العام من الضغط الخارجي، خصوصاً الأمريكي، واضحة، إذ إنه وبخلاف العادة أعلن عن تقدمه للدائرة التمهيدية للمحكمة بطلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال ووزير دفاعه، فيما جرت العادة أن يصدر إعلان بعد قبول المحكمة الطلب وإصدار مذكرات القبض بالفعل، وهو ما يشير ربما إلى رغبة المدعي العام في توجيه أي ضغوط خارجية قادمة باتجاه قضاة الدائرة التمهيدية، وفق المصري.
لكن من ناحية واقعية، يدرك قضاة المحكمة أن وقائع الحالة في فلسطين وطلبات القبض المقدَّمة من المدعي العام ضد مسؤولين إسرائيليين، محط اهتمام استثنائي وغير مسبوق على مستوى العالم سواء رسمياً أو شعبياً، وأن استجابة الدائرة التمهيدية للمحكمة للضغوط ستدمر مصداقية المحكمة بصورة خطيرة.
ويرى المصري أنه استناداً إلى السابقة المتعلقة بالحالة في فلسطين، الممثلة في قرار فبراير/شباط 2021، فإن قضاة الدائرة التمهيدية "تحلّوا بقدر كبير من المهنية والشجاعة لدفع مكتب المدعي العام للمضيّ قدماً في التحقيقات، وبالتالي لا أتوقع أن تؤثر الضغوط الأمريكية في قرار القضاة، بل ربما ستدفعهم تلك الضغوط إلى إظهار إصرار أكبر على تأكيد استقلال عمل المحكمة وحيادية القضاة"، حسب تعبيره.
وخلال السنوات الماضية فرضت واشنطن عقوبات على المدعي العام السابق للمحكمة السيدة فاتو بنسودة، لكنها تراجعت لاحقاً بعد صعود الرئيس الحالي جو بايدن إلى الرئاسة في أمريكا، وبصورة عامة هذه العقوبات لم تؤثر بشكل قاطع في عمل الادعاء العام رغم أنه يأخذ العامل السياسي في حساباته بصورة كبيرة.
من جهة أخرى، يؤكد الكاتب في الشأن القانوني وائل المصري، أن "مكتب المدعي العام كريم خان يهدد في المقابل أي جهة تحاول إعاقة عمل المحكمة أو الانتقام من مسؤولي المحكمة بسبب أدائهم عملهم، وبالتالي ففي حال ذهبت الأمور بعيداً بين واشنطن والمحكمة (وهو أمر مستبعد) فإننا لن نستبعد من ناحية نظرية أن نجد مشرعين أمريكيين مطلوبين أيضاً لدى المحكمة بموجب نص المادة 70 من نظام روما الأساسي".