عرفت العاصمة الصربية ليلة الجمعة مظاهرات عارمة داعمة للهجوم الروسي على أوكرانيا. وتجمهر بضعة آلاف من المواطنين الصرب أمام نصب التذكاري لقيصر نيكولاي في بلغراد، مرددين النشيد الوطني الروسي هاتفين بالنصر لـ"روسيا الأم".
فيما تكشف هذه المظاهرات المحكّ الحقيقي الذي تمرّ به صربيا، التي تقع على بعد أسابيع قليلة من انتخاباتها الرئاسية، فمن جهةٍ الدعم الشعبي للمعسكر الروسي وتصاعد الإحساس القومي الموالي لبوتين، ومن جهةٍ أخرى تأرجُح قيادة البلاد بين الحلف الوثيق مع موسكو والطمع في الانضمام إلى نادي الدول الغربية.
وفي ذات السياق تأتي هذه الوقائع ضمن تحركات ينهجها نظام بوتين منذ وقت طويل، مستثمراً في سوق التعصب القومي السلافي للتدخل في منطقة البلقان، مما يفسر أيضاً دعمه محاولات الانفصال الخطيرة التي يقودها زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، والمهددة بمستنقع دم جديد قد تغرق فيه المنطقة.
صرب بوتين
حسب ريبورتاج لوكالة رويترز، قال مُسِنّ صربي شارك في مظاهرات الجمعة إنه أتى ليدعم روسيا لكونها "تدافع عن الإنسانية وعن التحضر وعن الأرثودوكسية"، واصفاً حرب أوكرانيا بأنها "معركة بين الخير والشر، وبإرادة الله ستفوز أمُّنا روسيا فيها". وقال نيكولا بابيتش، شرطي كان يؤمّن المظاهرة، لوكالة فرانس برس: "أوكرانيا تتحرر من النازيين الجدد. الروس إخواننا يحرّرون البلاد، ونأمل أن يحرروا العالم".
فيما عرفت تلك المظاهرات مشاركة أكثر من 4000 شخص يحملون الأعلام الروسية وصور بوتين وإشارات "حرف زد المقلوب" التي وسمت دبابات موسكو الغازية لأوكرانيا، كما حملوا صلباناً وجابوا شوارع بلغراد الرئيسية.
منظمو تلك المظاهرات هم جماعة يمينية متطرفة تطلق على نفسها اسم "الدوريات الشعبية"، قالت في بيانها الدعائي إن "عدداً من الأبرياء الروس قُتلوا في أوكرانيا على يد النازيين الغربيين، وبالتالي من المنطقي أن يحقّق الشعبان الروسي والبيلاروسي العدالة بأيديهما". وربطت ما يقع في أوكرانيا بقضية كوسوفو، داعية إلى "حلّ الوضع الحالي في أرضنا المقدسة في كوسوفو وميتوهيا".
في المقابل لا يتوقّف دعم القوميين الصرب بوتين عند حد هذا التجمهر السلمي، بل تعداه إلى المشاركة في حربه على أوكرانيا ضمن الميليشيات المدعومة من الكرملين في دونباس. ومنذ اندلاع تلك الحرب في 2014، حسب تقارير إعلامية، فإن مئات المتطوعين من صربيا وجمهورية صرب البوسنة في لوغانسك ودونيتسك، للقتال تحت رايات انفصاليي الإقليم.
محكّ فوتشيتش
على مستوى القيادة الصربية، فالموقف من الحرب الأوكرانية مزدوج، إذ دعمت حكومة الرئيس ألكسندر فوتشيتش سيادة أوكرانيا، وصوّتَت بالموافقة على القرار الأممي الذي يُدين الهجوم الروسي... لكنها عارضت العقوبات التي قادها الغرب ضد موسكو.
وقال فوتشيتش خلال مؤتمر صحفي يوم الجمعة 25 فبراير/شباط الماضي، إن بلاده "تحترم باستمرار القواعد القانونية الدولية لأن هذه أفضل طريقة لحماية البلاد ومصالحها (...) فإن صربيا تعتني بمصالحها الوطنية، ولكنها تحترم أيضاً صداقاتها التقليدية".
مصالح وطنية لصربيا، تكمن في بعدها الاقتصادي في تحقيق اندماج أكثر مع جوارها الأوروبي، لأن 61% من تجارتها الخارجية مع دول الاتحاد، كما تسعى لتكون الدولة 28 في الاتحاد. أما "الصداقة التقليدية" فهي روابطها مع روسيا، التي تدعم ما تطالب به بلغراد من سيادة على كوسوفو. بالتالي تفسر هذه المعادلة، حسب روسيا، تأرجح الموقف الرسمي الصربي.
في المقابل، للرئيس فوتشيتش رهان آخر يتمثل في الانتخابات العامة التي ستشهدها البلاد في 3 أبريل/نيسان القادم، والتي هو في حاجة خلالها إلى أصوات المعسكر المحافظ بكل أطيافه، بما فيه أمثال الذين خرجوا لدعم روسيا في مظاهرات الجمعة.
إضافة إلى ذلك، رغم معارضة "دوريات الشعب" للحزب واعتباره "غير متطرف بما يكفي"، فبين الحكومة وجماعات اليمين المتطرف والقوميين السلاف تقارب كبير، ولا يتجسد هذا التقارب فقط داخل العملية الانتخابية، بل تكوّن هذه الجماعات مليشيات مسلحة موازية للشرطة والجيش.
يصف ذلك بريدراج بيتروفيتش، مدير البرامج في "مركز بلغراد للسياسات الأمنية"، وهو مؤسسة بحثية مستقلة، بأن دوريات الشعب "خطرون بالتأكيد"، وأصبحوا يمثلون جزءاً من "عالم مُوازٍ للمنظمات غير الحكومية، وعالم شبه بوليسي". وتبرر تلك الجماعات بنشاطها إلى جانب الشرطة بأنه لـ"تطوير وتعزيز قطاعات الأمن والتحقيق والدفاع".
لعبة تجر المنطقة إلى مستنقع دم
وتلتقي المصالح الروسية والصربية والقوميون اليمينيون في نقطة ساخنة، هي دعم تحركات زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك الأخيرة، والتي تهدف إلى انفصال جمهوريته ذاتية الحكم عن جمهورية البوسنة، بما قد يدفع المنطقة إلى اقتتال أهلي دموي جديد.
وتحدث دوديك في خطابات كثيرة خريف السنة الماضية عن رغبته في إنشاء "الوطن الصربي الكبير"، وهو مصطلح يعود إلى سنوات الحرب التي عرفتها البلاد بداية التسعينيات. ويصطف إلى جانبه في هذا الطرح القوميون الصربيون الذين يعتبرون أن بين المسيحيين والمسلمين صراعاً تاريخياً دينياً.
وتدعم روسيا سياسات دوديك، إذ سبق وصرّح رئيس صرب البوسنة بأنه "عندما أذهب إلى بوتين لا أكون بحاجة إلى تقديم مطالب، بل هو الذي يسألني عما يمكن فعله لمساعدتي"، مضيفاً أن "الرئيس الروسي لم يخذلني قط عندما قدّم لي وعوده، وعلى هذا الأساس ثقتي به كبيرة".
تتمثل المساعدة الروسية لدوديك، سياسياً في عرقلة أعمال المبعوث الأممي للبوسنة كريستيان شميت، إذ هدّدَت موسكو بتعطيل التصويت على تجديد مهامّ القوات الأوروبية في البوسنة والهرسك "يوروفار" إن لم يسحب شميت اتهاماته للمسؤولين الصرب. وعسكريّاً في تدريب مليشيات "الشرف الصربي" المتطرفة، لدعم مخطط انفصال صرب البوسنة.
وسبق أن حذر المبعوث الأممي للبوسنة والهرسك في تقريره من أن "الانقسامات بين الأطراف البوسنية آخذة في الاتساع، وخطر الحرب أكثر جديَّة، في حين أن أي ضعف في الاستجابة لهذه الوضعية قد يهدّد اتفاق دايتون، في وقت يتزايد فيه التدخل الخارجي في شؤون البوسنة والهرسك".