في زمن ما قبل كورونا، كانت حليمة تستيقظ عند الفجر أو قبل ذلك بقليل. تتوجّه إلى الميناء مع عودةِ قوارب الصيد من البحر. تشتري ما تَيَسَّر لها من السردين، ثمّ تنطلق في شوارع الدار البيضاء متّجهةً إلى المكان الذي خصّصته لعربة البيع الخاصّة بها. تنزعُ الشوكَ عن السّمك. تغمِسه في البهارات. تقطّع الباذنجان والطماطم والبصل، وتشرعُ في القلْي، قبلَ أن يبدأ الزبائنُ في التوافد عليها من كلّ صوب.
الحرارةُ كانت خانقةً في الصيف، والبردُ قاتلاً في الشتاء، أمّا الوقوفُ طوال اليوم أمام العربة، فلم يكُن ليتحقّق لولا الصّبر. وحدَه كان يزيل تلك المرارةَ عن حلقِها. ثمّ هناك استحضارُ وجوه أبنائها الأربعة الذين تعولهم وحدَها. تستندُ إليه في لحظاتِ التعب، وتمسحُ به حبّاتِ العرقِ المتصبّبةَ من جبهتها الشامخة.
عندما تعودُ حليمة إلى البيتِ في آخر اليوم، كانت تنسى كلّ تعبِها، فهي على الأقلّ تحصُل لقاءه على حفنةٍ من النقود تكفيها دفعَ سومةِ الإيجار وإطعامَ أبنائها وتوفير مصاريف دراستهم، وترى كلّ يوم ابتساماتٍ كثيرة على ثغورِ الزبائن، والشبَع في عيونِهم الغائرة.
ماذا تبقّى لها الآن مع حظرِ التجوال؟ لقد غيّر انتشار وباءِ كورونا حياتَها مثلما غيّر حيواتِ كثيرين. لكنّ حياتَها هي تحديداً تغيّرت على نحوٍ مأساوي؛ إنّها تلزم البيتَ كما اقتضت القوانين، وأيضاً حِفاظاً على حياةِ أبنائها. تعي جيّداً خطورةَ الخروج، ومسؤوليتَها الفردية، لكنّها تعرف أنّ الجوعَ، على غرار المرض، يقتُل أيضاً.
في انتظار عودةِ الحياة
ليس في المغرب إحصائيات وأرقام حول القطاع غير المهيكَل، الذي يشمل الباعة المتجوّلين أيضاً، لكنّ كثيراً من العائلات المغربية يعيش على هذا القطاع، بين مَن تبيعُ المسمّن، ومن يبيع الخضار، ومن يبيع السردين المقلي، ومن يبيع الخبز...
وأثّر في هذا القطاع حظرُ التجوال الذي فرضَه المغرب لمحاصرة وباء كورونا المستجدّ، ليحرِم كثيراً من المواطنين مصدرَ عيشهم.
"كنتُ أتعب كثيراً، وأكره حياتي في كثير من الأحيان، لكنني الآن أتمنى أن ينتهي هذا الوباء وأعودَ إلى حياتي السابقة"، تقول حليمة بأسىً ظاهر في عينيها الغائرتين.
وإذا كان بإمكان كثيرين العملُ من بيوتهم والحصولُ على رواتبِهم في آخر الشهر، فإنّ حليمة لن تستطيع ذلك. تجلسُ في البيتِ محاطةً بأبنائها في انتظار أن ينتهي هذا الكابوس الذي عصَف بحياتها، والذي لا يقدِر حتى رؤساء أقوى الدول على تخمين موعِد نهايته.
"ماذا سيأكل أطفالي في انتظار انتهاء هذه المصيبة التي حلّت بنا؟ وكم عليّ أن أنتظر؟"، تتساءل حليمة بمرارة.
حليمة، البالغةُ من العمر اثنين وأربعين عاماً، هي العائل الوحيد لأبنائها الأربعة. تتكفّل بمسكنِهم وطعامهم وشرابهم ومصاريف دراستهم، بخاصّة بعد وفاة زوجِها. ليسَ لها أحدٌ في هذه الدنيا، ورأسمالها الوحيد صحّتها وقوتُها وقليلٌ من الأمل تستضيء به في ليالي الظلمة واليأس والعياء.
خوفٌ من المستقبَلِ المجهول
في المغرب وفي العالم العربي، حليماتٌ كثيرات، لا يُحصَين. في شوارع القاهرة، في أسواق الدار البيضاء، وفي دروب تونس... يبِعن أيّ شيء وكلّ شيء من أجل العيش. زبائنهنّ الأساسيون الفقراء والجائعون والمشرَّدون والمعدومون الذين لا يملكون مالاً يكفيهم لتناول وجباتهم في المطاعم واقتناء حاجاتهم من الأسواق الممتازة.
في زمنِ كورونا، تَعيَّن على كلّ هؤلاء أن يختفوا من الشوارع، وأن ينسحبوا مع عرباتهم إلى الداخل للبقاء على قيد الحياة. لكنّهم في المقابل، سيواجهون ما هو أقسى من الموت. تخشى حليمة أن تُطرَد من البيت الذي تسكن فيه إنْ لم تدفع سومةَ الكراء، وتتطلّعُ إلى الأفق المجهول بخوف.
"لستُ وحدي، أعرف كثيرين ممّن لن يجدوا مالاً يدفعون به سومةَ الكراء في آخر الشهر"، تقول حليمة لـTRT عربي.
في 23 من شهر مارس، اجتمعت لجنة اليقظة الاقتصادية في المغرب للحديث عن تدابير دعم القطاع غير المهيكل المتأثر مباشرةً بالحجر الصحّي، وتوصّلت إلى قرار بمنح مساعدات مالية من الصندوق الخاصّ بمحاربة جائحة كورونا. وحدّدت المساعدات على النحو التالي:
ـ 800 درهم (نحو 80 دولاراً) للأسر المكوَّنة من فردين أو أقلّ.
ـ 1000 درهم (نحو 100 دولار) للأسر المكوَّنة من ثلاثة إلى أربع أفراد.
ـ 1200 درهم (نحو 120 دولارًا) للأسر التي يتعدّى أفرادها أربعة أفراد.
ماذا عن الحياة اليومية للفقراء في الحجر الصحي؟
كُتِبت مئاتُ المقالات عن كيفية قضاء فترة الحجر الصحي في المنازل دون ملل، وكثير من المدوّنات التي تتناول يوميات سأمِ مواطنين في بيوتِهم مع حظر التجوال. وإذا كان كثيرون يتحدّثون عن الملل الذي يعانونه في صالوناتِ منازلهم الأنيقة، وأمام شاشاتِ البلازما الضخمة، محاطين بالكتُب، ويمتلكون الإنترنت وNetflix، فإنّ آخرين، مثلَ حليمة، يقضون فترةَ الحجر متطلّعين إلى الجدران المتقشّرة لبيوتهم الصغيرة التي لا تحتوي على أقلّ أسباب العيش الكريم.
بيتُ حليمة غُرفةٌ واحدة يتقاسمُها خمسةُ أفراد، يجلسون وينامون ويطبخون فيها. جدرانٌ متقشّرة، وسقفٌ متآكلٌ من الرطوبة. تليفزيون صغير من زمنِ التسعينيات في إحدى زوايا الغرفة، قنّينة غاز للطبخ في زاويةٍ أخرى من الغرفةِ نفسِها، وثلّاجةٌ فارغة في الزاوية الثالثة. لا إنترنت ولا وايفاي ولا Netflix ولا أفلام ولا موسيقى. صمتٌ رهيبٌ يعمّ أركان الغرفة ورُعبٌ يهزّ زواياها ممّا يمكن أن يخبّئه المستقبل.
"لا نجدُ ما نفعله. أتركُ الأطفال يدرسون، فيما أشاهد فيلماً قديماً على التليفزيون، وأحياناً أتفرّج عليهم مكتوفةَ اليدين. لكنْ ماذا عسانا نفعل؟ لا خيارَ لدينا سوى الدعاء والانتظار"، تُردِف حليمة.
وتشير آخر الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة المغربية إلى أنّ العدد الإجمالي لحالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا المستجدّ هو 602 حالة، فيما وصلت الوفيات بسبب الفيروس إلى 36 حالة، في حين تماثلت 24 حالةً للشفاء.
وحتى مساء الثلاثاء أصاب الفيروس أكثر من 840 ألف شخص في 199 دولة وإقليماً، توُفّي منهم ما يزيد على42 ألفاً، فيما تعافى أكثر من 176 ألفاً.