في لبنان مثل قائل "الدم بيحنّ".. وفي لبنان دم تركي، وعن حنين الدم وعن أجداده يحدثنا الشيخ هلال التركماني بما لا يخلو من فخر، قائلاً إن بدو الترك كان يصفهم العثمانيون بأتراك تمام، ذلك أنهم كانوا أولي بأس شديد، وكانوا يوضعون في مقدمة الجيوش، وكانوا يوطّنونهم في أي بلد يفتحونه، وعلى سيرة الأجداد أخبرنا الشيخ هلال أن جده كان جندياً في الجيش العثماني وكان يحمل الهوية التركية لذلك صارت الكنية "التركماني". وعبّر عن أسفه لأنه لا يملك الهوية التركية، معرباً عن رغبته في الحصول عليها، "فهذا البلد فيه تاريخنا وتربّينا على محبته"، وأضاف أن هذا الشعور بالانتماء ليس جديداً، إلا أن الإقبال على البلد الأم ازداد بسبب تغير سياسته، وأردف بأن "هذا الشعور متوارث، فابني يحلم أن يكون ضابطاً في الجيش التركي وأن يعود إلى بلده".
ولدى سؤاله عما إذا كان التمسك بجذورهم التركية يُحسب ازدواجية في ولائهم للبنان، لم يُخفِ ولاءه العاطفي لتركيا كما هو للبنان، مشيراً إلى أن كثيراً من اللبنانيين يملكون جنسية أخرى ولم ينسوا لبنان ولم يتخلوا عنه، وأضاف أنه "كما أن للشيعة الحق بولائهم لإيران أو المسيحيين للغرب، فللتركمان الحق بالحصول على جنسية أخرى، والبديل الوحيد للتركمان هو تركيا، وما يربطنا بها إضافة إلى كونها أصلنا، هو أن العثمانيين يعنون لنا كثيراً على الصعيد الديني، فالارتباط بالتاريخ القومي ميل لا إرادي".
وتابع التركماني بحرقة: "نشعر أننا منسيون، غيرنا أقلّ منا عدداً وله مكانة في الدولة اللبنانية، على سبيل المثال الأرمن، لذلك نطالب بأن يكون للتركمان نائب في البرلمان"، واصفاً طلبه بالحلم صعب المنال.
لسان حال الشيخ هلال لا يختلف عند سائر التركمان في لبنان، نظراً إلى الوضع السائد في لبنان الذي ينعكس سلباً على عدة نواحٍ، لذلك أُسّس عديد من الجمعيات التي تُعنى بشؤونهم، من أبرزها رابطة التركمان في لبنان. رئيس الجمعية المهندس حسين تركماني قال في هذا الصدد إن أهداف الجمعية تقوية الروابط بين التركمان والحفاظ على التراث الثقافي والاجتماعي والعمل على تحقيق تنمية اجتماعية وخلق فرص عمل للشباب وغيرها من الأهداف التي تنعكس إيجاباً على المجتمعات التركمانية، وأضاف: "نسعى لتعزيز التواصل وتوطيد العلاقات بين التركمان والبلد الأم تركيا، نحن لبنانيون بالدرجة الأولى، لكن نحب تركيا كما نحب لبنان، لكن من ليس له تاريخ ليس له مستقبل. نفخر بتاريخنا ونتمنى أن يكون لنا مستقبل عظيم في تركيا الجديدة والعظيمة".
وعن علاقة التركمان بالسفارة التركية لفت رئيس الجمعية إلى أنّ "العلاقة بالسفارة هي علاقة إنمائية واجتماعية وليس لها أي بعد سياسي، وهي تقتصر على المساعدات التي تقدمها لنا الدولة التركية"، وأكّد أن مشاركة التركمان في الأعياد الوطنية والتأييد لتركيا ليست بإملاءات من السفارة بل هي نابعة من رابط معها هو رابط الدم.
الكواشرة.. معقل التركمان في لبنان
لدى حديثنا عن تركمان لبنان لا يمكننا إلا التوقف في بلدة الكواشرة التي تُعتبر معقلاً لهم، فكل سكانها من التركمان، تليها بلدة عيدمون، وسكانها خليط اجتماعي وديني، وهذا ما كان له التأثير المباشر في حفاظ أهالي الكواشرة على اللغة التركية أكثر من سواهم.
وفي معرض إجابته عن الطابع الاجتماعي للبلدة من حيث اللغة والعادات والتقاليد التركمانية، وما بقي منها، قال رئيس بلدية الكواشرة السابق الشيخ مصطفى خضر إن العادات والتقاليد لا تختلف عن العادات اللبنانية، وقلة من السكان ما زالوا يحافظون على العادات التركية، كعادة حنة العريسين ليلة الزفاف.
أما اللغة فقال إن "أهالي البلدة حريصون جداً على التمسك بلغة الأجداد، ونحن أخذنا عهداً على أنفسنا أن لا يتكلم الأبوان إلا بالتركية أمام أولادهما، لكي يسمعوا اللغة ويلتقطوها منذ لحظة ولادتهم. نحن لا نزال نحافظ على اللغة التركية، إلا أن لغتنا هي اللغة القديمة العثمانية العامية، تعلماناها من أهلنا لفظاً فقط"، لذلك، أضاف خضر، "طلبنا من السفارة تخصيص أستاذ يعلّم الجيل الجديد اللغة التركية قراءة وكتابة". ولفت إلى أن الطلاب مقبلون على تعلمها بكل قناعة وجدية، رغبةً منهم في الحفاظ على تراثهم، كما أشاد بتوطيد العلاقات بين البلدة والبلد الأم بالتواصل مع السفارة. ونوّه خضر في هذا الإطار بالمشاريع التي قدمتها الدولة التركية إلى بلدة الكواشرة وغيرها، كتمديد شبكة مياه وإنشاء مدارس وتقديم منح جامعية للطلاب في تركيا وغير ذلك من المشاريع الإنمائية والثقافية.
يُذكر أن وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو قد زار بلدة الكواشرة عام 2009، وترك وراءه نصباً تذكارياً وسبيل ماء عربون تعاطف. كما زارها رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان عام 2010، وفي 8 أغسطس/آب بعد انفجار مرفأ بيروت زارها رئيس هيئة الإغاثة وإدارة الكوارث التركية محمد غولو أوغلو، ورئيس مكتب وكالة التنمية التركية في بيروت أورهان أيدن.
وبما أن للغة أهمية بارزة كمرتكز في تشكيل الهوية، وإذ تربط بينهما ثنائية، فاللغة هي العنصر الأساسي الدالّ على هويّة الفرد وهويّة المجتمع، وما تمسُّك أهالي الكواشرة بلغتهم إلا دلالة على تمسُّكهم بالهوية التركية، وفي هذا السياق تابع رئيس بلدية الكواشرة السابق متحدثاً عن روابط بلدته بتركيا بالقول: "نحن لبنانيون بالدرجة الأولى، وفي نفس الوقت عاطفتنا نحو تركيا طبيعية، فدمنا تركي"، ووصف شعوره ما إن تطأ قدمه المطارعند زيارته تركيا، بأنه ملك الكون أو أنه وجد حبيباً بعيداً. يقول: "لذك قدمنا كتاباً رسمياً طالبنا فيه بإعادة الجنسية التركية لأهالي البلدة"، مشدداً على كلمة "إعادة"، موضحاً: "فنحن أتراك أباً عن جد، وبعض العائلات احتفظ بلفظ الكنية الأساسي كعائلة (قره حمد) التي لها أقارب في تركيا ويُتواصَل معهم".
ولفت الشيخ خضر إلى أن "تركيا ليست بحاجة لنضحي من أجلها، ولم تطلب منا شيئاً، ومظاهرات التأييد التي ننظمها تلقائية، كذلك رفع الأعلام التركية ما هو إلا تعبير عن محبة خالصة"، وختم حديثه بالقول: "تركيا الأم الحبيبة ولبنان الوطن".
والواقع أنه بسبب سياسة إنمائية غير متوازنة في لبنان تنحو إلى مركزية تفيد منها العاصمة بيروت والمناطق المحيطة بها على حساب المناطق النائية، فإن التركمان الذين يعيش معظمهم في قرى بعيدة عانوا ظروفاً صعبة كنقص المياه العذبة وانقطاع الكهرباء وعدم وجود بنى تحتية وخدمات عامة كالصحة والتعليم، شكّل هذا دافعاً للحكومة التركية لإطلاق مبادرات اجتماعية وتربوية تهدف إلى تنمية المناطق التي يعيش فيها التركمان.
تاريخ الوجود التركماني في لبنان
قبل أن يحدثنا المهندس المعماري البروفيسور خالد عمر التدمري الباحث المتعمق المطّلع على اﻷرشيف العثماني، عن تاريخ الوجود التركي في لبنان، أبى إلا أن يسرد لنا بعضاً من الإنجازات الشاهدة على هذا التاريخ والتي أسّست لعلاقات متينة بين لبنان وتركيا.
قال د.تدمري، عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة الآثار والتراث والسياحة فيها، إنه "إذا أردنا أن نتكلم عن تاريخ الوجود التركي في لبنان بخاصة مع شمال لبنان وطرابلس فهذا الوجود بدأ منذ عصر المماليك وليس فقط منذ عصر العثمانيين، لأن المماليك الذين حرروا طرابلس من الإفرنج الصليبيين عام 1289 هم أساساً من الأتراك، وأسماؤهم تركية ومعالمهم ومبانيهم الأثرية الشاهدة حتى اليوم في المدينة القديمة تحمل أسماء أمراء المماليك في طرابلس شاهدة على هذا الأصل، من قلعة أسمندر الكرجي من كلمة أسندمير التركية باني قلعة طرابلس، إلى الأمير سيف الدين طينال باني جامع طينال، والأمير شهاب الدين طينال الذي بنى أسواق العطارين والمدرسة القرطاوية، كلهم كانوا نواب سلطنة، وقِسْ على ذلك أكثر من 30 نائب سلطنة كانوا من المماليك الأتراك.
تبعهم الحكم العثماني نحو 400 عام، كانت فيه طرابلس مميزة بأنها المدينة الأولى على ساحل بلاد الشام، وتُعَدّ المرفأ التجاري الأساسي للداخل السوري لحلب ودمشق، ودائما كانت مركزاً لولاية كبيرة بحكم موقعها وأهميتها، وبالتالي فيها عدد هائل من المعالم التاريخية العثمانية التي تعود إلى تلك الفترة وصولاً إلى نهاية العصر العثماني لمَّا اهتم السلطان عبد الحميد بهذه المنطقة وبرفع المستوى المعيشي والاقتصادي والتعليمي فيها، كل هذا ولّد لدى الناس علاقات مميزة مع تركيا على مر التاريخ.
كثير من العائلات اللبنانية لها شجرة.. جذورها في تركيا وفروعها في لبنان
من المعروف أن كثيراً من العائلات اللبنانية يعود بجذوره إلى الأصول التركية، عن هذا حدثنا البروفيسور تدمري قائلاً إن مدينة طرابلس وشمال لبنان بشكل عامّ تتميز بعلاقات عائلية اجتماعية وتاريخية تربطها بتركيا على كل الصعد، والدليل على ذلك أننا إذا أردنا أن نعمل إحصاءً وجدنا أن أكثر من 40% من أبناء الشمال أو طرابلس تحديداً ينتمون بشكل أو بآخر بتاريخهم وبأسماء عائلاتهم إلى التاريخ العثماني، فهناك من تحمل عائلاتهم أسماء مدن تركية، دلالة على أن أجدادهم أتوا من تركيا خلال الفترة العثمانية لتولي مناصب في طرابلس وبقوا فيها، مثلاً عائلات (أفيوني، عنتبلي، إسطنبولي، إسلامبولي، إزمرلي، مرعشلي...)، وهي أسماء من مدن أفيون وعنتاب وإسطنبول وإزمير ومرعش...
ويضيف: "أو أن عائلاتهم تحمل اللقب التركي، مثلاً عائلات (الترك، تركماني، التركي)، أو تحمل ألقاباً في الجيش العثماني مثل (الجبخنجي، السلحدار، السنجقدار، البيرقدار...)، وهي أيضاً ألقاب تدلّ على رتب عسكرية تولاها أجدادهم في العصر العثماني، أو مناصب إدارية معينة، وهناك من كانوا مشايخ للحرف وللمهن تحمل أسماء عائلاتهم نسباً ينتهي في اللغة العثمانية بـ"جي" مثل (صابونجي، جبخنجي، الخانجي وغيرها)، وإذا أردنا تعدادهم فنهم كثير".
أضاف التدمري أنه حتى الذين ليست أسماء عائلاتهم تركية نجد أنه كان لأجدادهم نفوذ ومناصب تولوها في الدولة العثمانية، وهذا يجعل الرابط الأسري والرابط الاجتماعي والرابط التاريخي قويّاً بين طرابلس وشمال لبنان وتركيا، لأنه يستمد من هذا التاريخ المشترك الذي زاد اليوم على 700 عام منذ أيام المماليك حتى اليوم، وهناك كثير من الأحداث والأمور المشتركة والقرابات والتبادل على كل الصعد.
التركمان في لبنان: الجغرافيا والسكان
يبلغ عدد التركمان في لبنان نحو 19000 نسمة، وفي دراسة معمقة أجراها مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية (Orsam) حملت عنوان "الأتراك المنسيون: الوجود التركماني في لبنان"، وهي تعتبر الدراسة الوحيدة المتاحة حتى الآن، يمكننا تصنيف الوجود التركي في لبنان في خمس نقاط:
1ـ تركمان عكار: التركمان القاطنون في قريتَي الكواشرة وعيدمون الواقعة في منطقة عكار شمالي لبنان.
2ـ تركمان بعلبك: هم الموجودون في خمسة تجمعات سكنية صغيرة في جوار مدينة بعلبك في وادي البقاع شرق لبنان: قرية شيمية، قرية دريس، قرية نانانية، قرية حديدية، قرية القاع.
3ـ أتراك كريت: الذين يسكنون الآن في طرابلس والذين جُلبوا إلى لبنان وسوريا اللتين كانتا تابعتين للدولة العثمانية آنذاك، من جزيرة كريت بعد ازدياد الهجمات ضدهم في أعقاب الاستيلاء اليوناني عليها.
4ـ المواطنون الأتراك القاطنون في بيروت والتركمان السوريون: هم المواطنون الأتراك الذين هاجروا من تركيا خصوصاً من جنوب شرق الأناضول في أربعينيات القرن الماضي بسبب الظروف الاقتصادية واستقر معظمهم في بيروت، مع عدد قليل من المواطنين السوريين التركمان.
5- الجراكسة: وقد هاجروا من مناطق البلقان وسكنوا في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العثمانية- الروسية (1877 -1878).
أما من حيث الهوية الثقافية والدينية فيعبّر التركمان عن أنفسهم بأنهم مواطنون لبنانيون من الطائفة السنية، إلى جانب ارتباطهم بالقومية التركية التي هي مثار فخر واعتزاز لهم.