ما بعد كورونا ليس كما قبل كورونا. هذا ما تُخبرنا به الروايات السياسية والإعلامية المختلفة. لكنْ لا يزال هذا "الما بعد" تغمره صورة ضبابية وغير واضحة. وفي حين أنّ الكثير من الدول تخمّن أنّ الأمور ستبدأ بالانفراج شيئاً فشيئاً بداية الشهر القادم، حيث سيبدأ تشغيل المؤسسات والشركات والأماكن العامّة والتخفيف من إجراءات الحجر الصحي وتدابير العزلة المنزلية ومنع التجوّل، إلّا أنّ الكثيرين يتنبّأون أنّ العودة إلى "الحياة الطبيعية" لن تكون ممكنة قبل الخريف القادم.
وفي ظلّ الآراء المتضاربة والمتناقضة التي تصلنا من المسؤولين، الحكوميين والطبّيين، ومع القواعد والنصائح التي تتغيّر بسرعةٍ كبيرة كلّ يوم، لا يزال الكثير من القلق يطفو على السطح فيما يتعلّق بالفترة القادمة، لا سيّما مع نمط السلوكيّات الصارمة والحذرة التي بدأنا نتكيّف معها في مواجهتنا للفيروس ومحاولاتنا لمنع انتشاره. الأمر الذي سيكون له الأثر العميق على حياتنا الاجتماعية وكيفية تفاعلنا جسدياً مع الآخرين من حولنا.
سيطرة سياسية على الحياة الاجتماعية
تتوقّع التنبؤات الحالية ببعض المساومات التي تسمح لنا بالاحتفاظ ببعض مظاهر الحياة الاجتماعية. ربما ستشغل الأماكن العامّة نصف مقاعدها، وستعقد الاجتماعات في غرف أكبر مع كراسي متباعدة، وستطلب منّا العديد من الأماكن أخذ حجزٍ مسبق في وقتٍ مبكر حتى لا يحدث أيّ ازدحام وتجمّعات كبيرة للأشخاص. وربّما ستُمنع الأعراس ومراسم الزفاف وأيّة مناسبات اجتماعية أخرى لشهورٍ عدّة حتى تتأكّد الدول من انحسار الفيروس بشكلٍ فعليّ. ومن المرجّح أنْ تستمرّ تقييدات السفر أو أنْ يصبح متاحاً لفئاتٍ معيّنة من الأشخاص دون غيرهم.
إذ ستطوّر الدول أساليب مراقبة تسمح لها بتتبّع التجمّعات وتحديد المصابين ونشر بياناتٍ لأماكن وجودهم وحركتهم، أو بإشراك الأفراد أنفسهم بالتبليغ عنْ الآخرين من حولهم. قامت كلٌّ من إسرائيل وسنغافورة على سبيل المثال في وقتٍ مبكّر من انتشار الفيروس باستخدام بيانات الهواتف المحمولة لتعقّب المصابين والأشخاص الذين كانوا على تواصلٍ معهم وتنبيههم باحتمالية تعرّضهم للإصابة.
ستطوّر الدول أساليب مراقبة تسمح لها بتتبّع التجمّعات وتحديد المصابين ونشر بياناتٍ لأماكن وجودهم وحركتهم أو بإشراك الأفراد أنفسهم بالتبليغ عنْ الآخرين من حولهم.
وقد قامت العديد من الدول الأخرى بالأمر نفسه لاحقاً. أمّا في الأردن،
فخصّصت الحكومة تطبيقاً إلكترونياً مجانياً يمكّن الأشخاص من الإخبار عن الإصابات
المشتبه بها والإبلاغ عن مخالفي إجراءات الوقاية والذين يخرقون حظر التجوّل
المفروض.
حملت هذه الإجراءات معها الكثير من ردود الأفعال الرافضة التي تحذّر من تطوّر أساليب المراقبة والتتبّع وانتهاك الخصوصية التي ستتمكّن منها الدول والحكومات وتستخدمها لتعزيز قبضتها بحجّة الصحّة والسلامة الطبّية. ويتوقّع الكثيرون أنّها ستخلق الكثير من التحدّيات فيما يتعلّق بحقوق الأفراد وخصوصيّاتهم.
وقد حذّرت منظمة العفو الدولية فيتقريرٍ لها من أنّ استخدام بيانات المصابين وغيرهم من الأفراد يشكّل خطراً حقيقيّاً في استخدامها لأغراضٍ غير طبّية، كأنْ تزيد من إمكانية التمييز ضدّ الجماعات المهمّشة. وتدعو المنظمة في تقريرها إلى ضرورة الانتباه للإجراءات التي تتخذّها الحكومات في مواجهة الفيروس، والتي من المحتمل أنْ تستمرّ حتى بعد انتهاء الأزمة وتعزّز قدرة الدول في السيطرة على الشعوب وتكثيف المراقبة عليها.
وفي وقتٍ سابقٍ، كان عدد من المفكّرين والفلاسفة قد حذّروا بالفعل من خوفهم من أنّ الدول قد تستخدم حالة الاستثناء التي خلقتها الجائحة كنموذج حُكمٍ طبيعيّ يستمرّ بعد الوباء تتطلّع من خلاله إلى توسيع سُلطتها عن طريق تقييد الحريات الشخصية والسيطرة الاجتماعية. بحيث أنّ القرارات التي تتخذّها السياسة، والتي يتمّ تبريرها بالمعرفة العلمية التي يقدّها الخبراء، ستشكّل حياتنا الاجتماعية اليومية في المرحلة القادمة.
ما يعني أنّ علينا أنْ نضع بعين الاعتبار أنّ الحياة الاجتماعية في الفترة القادمة ستكون عرضةً أكثر لسياسات المراقبة والتتبّع الحكوميّ، الأمر الذي يطرح بدوره الكثير من الأسئلة والذي سينعكس بطرقٍ مختلفة على بُنياتنا النفسية وتفاعلنا الجسديّ والاجتماعي مع الآخرين من حولنا.
فهم جديد للفردانية والمجتمع
من جهةٍ أخرى، يمكننا القول إنّ الآراء الفكرية المختصة تنقسم فيما يتعلّق بشكلِ الحياة الاجتماعية ما بين فكرتين؛ إحداهما متشائمة والأخرى يمكننا القول إنّها متفائلة ترى أنّ العزلة والخوف اللذين جلبهما الفيروس سيُعيدان قيمة التواصل الاجتماعي الفعليّ للأفراد والمجتمعات الغارفة في الحياة الاستهلاكية النهمة وستخلق فهماً جديداً للفردانية المنغلقة على الذات، والتي تطغى على نمط الحياة منذ عقود.
الأفكار المتعلّقة بمدى حريّة الفرد واستقلاليّته وعدم حاجته للغير والآخر قد أصبحت موضع تساؤل كبيرٍ بعد انتشار الفيروس الذي جعلنا ندرك أنّ حريّتنا مرتبطة بحريّة الآخرين.
إذ إنّ الأفكار المتعلّقة بمدى حريّة الفرد واستقلاليّته وعدم حاجته للغير والآخر، قد أصبحت موضع تساؤل كبيرٍ بعد انتشار الفيروس الذي جعلنا ندرك أنّ حريّتنا مرتبطة بحريّة الآخرين، وأنّ قراراتنا الفردية محكومة بهم أيضاً. لا سيّما وأنّنا أيضاً رأينا كيف أنّ وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت تُفقد ترابطنا الاجتماعي قيمته ولا تحقّق فعاليّته، كيف أنّها عاجزة عن تهدئة قلقنا وخوفنا أو أنْ تحلّ محلّ التواصل الفعليّ من كلامٍ وعناق وتعاطف وتعاون والتضامن الإنسانيّ وغيرها من المشاعر المختلفة.
انسحاب اجتماعي
على المستوى النفسيّ، تقترح المعالِجة النفسية منال عاصي في حديثها مع TRT عربي أنّ العودة للممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية تتطلّب وقتاً كبيراً، إذ إنّ الأزمة التي نمرّ بها هي أزمة "وجودية" بحدّ وصفها، حيث إنّها تمسّ التقارب الجسدي/ الاجتماعي، والتي هي من أكثر السمات الوجودية للإنسان.
ترى عاصي أنّ القلق والخوف سيكونان حاضرين للغاية بعد بدء الدول بإعادة الحياة إلى مجراها، سواء بعد عيد الفطر أو بداية الشهر القادم، خاصّة في ظلّ القلق الاقتصادي وفقدان الثقة بالحكومات والسياسة التي عجزت عن إيجاد بدائل للعديد من الفئات المجتمعية. وبالتالي، فإنّنا بحاجة لوقتٍ كبير حتى نستطيع استيعاب وتفهّم الطرق التي ستلجأ لها أنفسنا حتى ننظّم حياتنا التي توقّفت لعدّة شهور عن الإنتاج والتواصل الطبيعي.
القلق والخوف سيكونان حاضرين للغاية بعد بدء الدول بإعادة الحياة إلى مجراها، سواء بعد عيد الفطر أو بداية الشهر القادم خاصّة في ظلّ القلق الاقتصادي.
ومن وجهة نظرها، تقترح عاصي أنّ الخروج القريب من فترة الحجر المنزلي لحياةٍ غير واضحة ومبهمة بدون أيّ معرفة أو جاهزية أو قواعد ناجعة لمواجهة الفيروس ستكون سبباً أساسياً في تفاقم مستويات القلق وحالات الخوف من التواصل البشريّ الطبيعي، نظراً لأنّ تهديد الفيروس والإصابة بالمرض أو الفيروس أو تعريض كبار السنّ لعدواه لن يختفي حتى تلك المرحلة خاصّة وأنّ سلوك الفيروس لا يزال غير معروف وأنّه معرّض للكثير من الطفرات بين الفترة والأخرى. وهو ما يظهر جليّاً من خلال تصريحات الساسة والخبراء الطبيّين الذين يغيّرون أقوالهم وآراءهم بسرعة كبيرة.
فما نعرفه اليوم عن الفيروس قد يتمّ تفنيده غداً أو في الأسبوع القادم. تتوقّع عاصي أنّ جهلنا بالفيروس وقلقنا الاقتصاديّ وفقدان ثقتنا بالعالم ستؤدّي جميعها إلى انسحابٍ اجتماعيّ أكثر ممّا كنّا نعيشه قبل أزمة كورونا. وهو ما يحتاج منّا جاهزيةً عالية، سواء على المستوى النفسيّ أو الاجتماعيّ، لنتجاوز هذه الأزمة الوجودية التي يمرّ بها العالم لكنّها علّمتنا في الوقت نفسه قيمة العائلة والأصدقاء والمجتمع من حولنا.