منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وخلال لقاء المصالحة الذي جمع الرئيس الأمريكي رونالد ريغن بنظيره السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، بجنيف السويسرية، اتفق الرئيسان على تضافر الجهود بينهما لتطوير طاقة الاندماج "مصدر طاقة لا ينضب لصالح البشرية"، ومن هنا وُلدت فكرة "المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي" (ITER)، الذي بُني بعدها بمنطقة كاداراش جنوب فرنسا.
وتعود الأضواء مؤخراً لتُسلَّط على هذه المنشأة البحثية الدولية، بخاصة بعد الاكتشاف غير المسبوق الذي أعلنته الولايات المتحدة، بتوصل علمائها لإجراء تجربة ناجحة للاندماج النووي. فيما يأتي هذا الإعلان في مناخ سمته الأساسية هي القطيعة بين الغرب وروسيا، وهو ما يدفع إلى السؤال حول ما إذا كانت هذه الأبحاث الطاقية ستجبر الطرفين على استمرار شراكتهما في هذا المجال.
هل يصبح الاندماج النووي نقطة شراكة إجبارية بين روسيا والغرب؟
ورثت روسيا العضوية التأسيسية في "المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي" عن سالفها الاتحاد السوفييتي، ويشترك فريق علمائها، البالغ 50 عضواً، في العمل داخله مع نظرائهم الأمريكيين. إضافة إلى علماء من 35 جنسية أخرى، بما فيها الصين والهند وكوريا الجنوبية.
اليوم، وبعد نجاح علماء مختبر لورانس ليفرمور الوطني في كاليفورنيا الأمريكية، لأول مرة في تاريخ البشرية، في إجراء تجربة ناجحة للاندماج النووي، تصبح مهمة نظرائهم في "ITER" بحث سبل تحويل هذا المصدر الطاقي تجارياً، وتسخيره لخدمة البشرية، إذ ستصبح المفتاح السحري لحل أزمة الطاقة التي يعرفها الكوكب ومكافحة التغيرات المناخية.
هذا المشروع الذي تبلغ ميزانيته نحو 44 مليار يورو، يتحمل الاتحاد الأوروبي نحو نصف هذه التكاليف، وتملك الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية نسبة 9% فيه.
غير أن اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما تلتها من قطيعة واسعة بين الروس ونظرائهم الغربيين، تهدد هذا المشروع بالإجهاض. ووفقاً لسابينا غريفيث، مسؤولة الاتصال في "ITER"، فإنه "توازن صعب بين إدانة أحد الأعضاء ومواجهة عواقب ذلك المشروع". ولفتت المسؤولة إلى أن النقاشات انطلقت منذ فبراير/شباط الماضي حول الأمر، بما في ذلك "اقتراح تعليق لافتة تدين الحرب على مبنى المنشأة"، لكن سرعان ما جرى التخلي عن الفكرة.
وحسب الزميل في مؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي" مارك هيبز، فإن: " الغرب في معضلة عميقة، لكون الصناعة النووية الروسية متجذرة بعمق في أنشطة هذه الطاقة في جميع أنحاء العالم". مضيفاً بأن هذه الدول "تتعرض لضغوط سياسية من أجل تنويع مصادر الطاقة الخاصة بها بعيداً عن روسيا، ولكن إذا فعلوا ذلك في المنطقة النووية، فمن شأنه أن يؤخر انتقالهم إلى مصادر طاقة خالية من الكربون".
وبالتالي، يجبر هذا الوضع الطرفين على ضرورة الاختيار بين مواصلة هذه الشراكة أو تعطيل الانتقال الطاقي الذي يقوم عليه مستقبل البشرية المصيري، وهو ما يعبر عنه موقع "بوليتيكو" الأمريكي بالقول: إن العمل المشترك على مشروع الاندماج النووي "هو الشراكة الوحيدة التي لا يمكنهم الهروب منها".
بالمقابل، يتفاءل مدير العام الجديد لـ "ITER"، بيترو باراباشي، بأن قوة المشروع كانت دائماً تكمن في قدرته على الارتقاء فوق الأحداث، و"طوال تاريخ المفعل النووي التجريبي، لم تؤثر الخلافات السياسية بين أعضائها (الحروب التجارية والنزاعات الحدودية والخلافات الأخرى) على روح التعاون داخله، لإنه مشروع سلام".
مصدر طاقة لا ينضب
وفي 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري، صرحت وزيرة الطاقة الأمريكية جينيفر جرانهولم بأن تجربة الاندماج النووي التي أجراها علماء أمريكيون، والتي كررت "ظروفاً معينة لا توجد إلا في النجوم والشمس"، جرت بنجاح. مضيفة أن: "هذا الإنجاز يجعلنا نقترب خطوة مهمة واحدة من إمكانية وجود طاقة اندماج وفيرة خالية من الكربون تغذي مجتمعنا".
يحدث الاندماج النووي عند دمج ذرتين أو أكثر في واحدة أكبر، وهي عملية تولد كمية هائلة من الطاقة على شكل حرارة يجرى تحويلها لاحقاً إلى كهرباء يمكن أن تزود المنازل والمكاتب بالطاقة دون انبعاث الكربون في الهواء أو إلقاء النفايات المشعة في البيئة.
تقنياً، وإذا أخذنا ذرات عنصر خفيف مثل الهيدروجين مثالاً للتوضيح، نجد أنه عند تسخين ذرتَين من الهيدروجين تتحدان لتكوين عنصر واحد أثقل مثل الهليوم، ينتج التفاعل النووي كميات هائلة من الطاقة التي يمكن التقاطها.
ومنذ ستينيات القرن الماضي، يحاول العلماء من أكثر من 50 دولة تحقيق ما يسمى "كسب الطاقة الصافي"، وهو مَعْلم رئيسي في محاولة لتوليد طاقة نظيفة غير محدودة من الاندماج النووي. استمرت جهود العلماء حتى تمكنوا أخيراً من تحقيق كسب في الطاقة من خلال تجربة مختبر لورانس ليفرمور. إذ وضع العلماء 2.05 ميغا جول من الطاقة في الهدف وأسفرت عن 3.15 ميغا جول من ناتج طاقة الاندماج، مما أدى إلى توليد أكثر من 50% من الطاقة عما وُضع فيه.