لا يمكن إنكار حقيقية أن الشعب التركي واحداً من الشعوب المدخنة بنسب عالية، لكن بالتوازي مع ذلك تعترف منظمات صحية دولية بأن الحكومات التركية المتعاقبة ومؤسسات المجتمع المدني في تركيا يقودون حملات ناجحة منذ عقود طويلة وذلك بهدف الحد من هذه الظاهرة التي تتسبب في وفاة ملايين البشر حول العالم وتكلف آثارها الصحية الحكومات مليارات الدولارات سنوياً.
وتخوض تركيا مذ الأربعينيات حملات واسعة من أجل الحد من التدخين في البلاد، بدأت بتطبيق بعض الإجراءات على نطاق المحافظات قبل أن تتوسع وتصبح جزء من القانون التركي الذي ادخلت عليه تعديلات تدريجياً ليصبح واحداً من أشد القوانين في العالم التي تكافح التدخين، وجعل تركيا محل اهتمام وإشادة دولية واسعة رغم تأكيد المسؤولين الأتراك أنفسهم أن الحرب على التدخين طويلة الأمد وما زالت بحاجة إلى المزيد من العمل المتكامل بين الحكومة والمجتمع المدني.
وما بين القوانين الصارمة بمنع التدخين في الأماكن العامة وتدريجياً في المرافق الصحية والتعليمية والمواصلات العامة وصولاً للسيارات الخاصة، وفرض العقوبات المالية الرادعة، تبرز الحملات التوعوية والخدمات الصحية في إطار برنامج ضخم لتوعية المواطنين من الآثار السلبية للتدخين وتقديم الدعم الصحي للإقلاع عنه، وذلك من خلال التوعية والدعم الصحي إلى جانب العروض التحفيزية من الدولة التي وصلت حد منح إجازات وامتيازات للموظفين غير المدخنين.
وعلى الرغم من أن "الحرب التركية على التدخين" بدأت منذ عقود، إلا أنها نالت زخمها الأكبر في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أولى أهمية خاصة لهذا الأمر معتبراً أن "الحرب على التدخين لا تقل أهمية عن الحرب على الإرهاب"، وقاد بنفسه حملات توعية واسعة ودعم تعديلات قانونية وإجراءات تنفيذية رادعة في إطار الحرب على التدخين.
معركة تاريخية
أولى الخطوات الحقيقية في هذا الإطار بدأت عام 1943 عندما صدر أول قرار بمنع التدخين بشكل نهائي في وسائل المواصلات العامة ومنها "الترام واي" وسفن النقل البحري بين شقي إسطنبول. وتم منح صلاحيات للبلديات والضابطة من أجل مراقبة تطبيق القرار، حيث واجهت الجهات الرسمية صعوبات بالغة جداً في تطبيق القرار واجبار المواطنين على الالتزام به، وكتبت الصحف عن استحالة تطبيق هكذا قرارات، التي طبقت تدريجياً وأصبحت من البديهيات في البلاد.
وفي بداية الستينات من القرن الماضي، جرى توسيع الحظر المفروض على التدخين في وسائل المواصلات العامة، وبعد أن كان يشمل "الترام واي" وسفن النقل البحري، توسع ليشمل باصات النقل العام الكبيرة والمتوسطة، لكن طوال السنوات الماضية كانت القرارات تصدر بشكل محلي عن ولاة المحافظات ولم ترتقي لأن تصبح قانون عام في الدستور.
مخاض عسير
في عام 1986 بدأت أول محاولة لإجراء تعديل قانوني ينص على حظر التدخين في الأماكن المغلقة، ولكن هذه المهمة لم تكن سهلة على الإطلاق، حيث تقدم مجموعة من النواب بمشروع قانون ينص على حظر التدخين بشكل كامل في الأماكن العامة (قانون رقم 1593) الذي نص على "حظر التدخين بشكل كامل في الأماكن العامة المغلقة ووسائل النقل العام بهدف حفظ الحق في الصحة والحياة لغير المدخنين"، لكن فشل تمرير هذا مشروع القانون في مجلس الأمة.
وفي نفس العام، وفيما يعتقد أنه لأسباب اقتصادية، أصدر مجلس الوزراء التركي قراراً بإنهاء احتكار الدولة لصناعة الدخان، ما فتح الباب واسعاً أمام العديد من شركات الدخان المحلية والدولية الدخول للسوق التركي وبدأت بإنتاج وبيع الدخان في تركيا على نطاق أوسع وجرى تحرير السعر بناء على العرض والطلب، وهو ما اعتبر بمثابة تراجع في الحرب الحكومية على التدخين.
لكن سريعاً وفي عام 1987 أخذت الحرب على التدخين منحاً مهماً مع وقوف القطاع الخاص إلى جانب الحكومة، حيث بدأت كبرى الشركات في البلاد باتخاذ قرارات بمنع التدخين في مرافقها كالمتاجر والمصانع، بعد أشهر قليلة من قرار الخطوط الجوية التركية لأول مرة منع التدخين على متن رحلاتها الداخلية والخارجية التي تقل عن 6 ساعات وهو القرار الذي واجه معارضة شديدة في بداياته وتحذيرات من خطر حصول حرائق مع زيادة التدخين في حمامات الطائرات، قبل أن تنجح الشركة في تطبيقه تدريجياً على كافة رحلاتها.
في النصف الثاني من الثمانينات، حصلت حملة مكافحة التدخين على زخم كبير بفضل وزير الصحة آنذاك "بولنت أكارجالي" وازدهرت حملة "وداعاً للسجائر مرحباً بالحياة"، ونظمت حملات واسعة في الصحف والمجلات وبدأت خطوات أخرى لمنع لتقليل التدخين في الأماكن العامة المفتوحة أيضاً.
تحولات قانونية
عقب فشل أول محاولة لتشريع قانون حول حظر التدخين عام 1986، بدأت محاولة أخرى عام 1989 وجرى إعداد مشروع قانون ينص على حظر التدخين في المؤسسات التعليمية والصحية والطائرات والمترو والترامواي ووسائل النقل البحري وباصات النقل العام وحظر الدعايات التجارية للدخان وفرض غرامات مالية على المخالفين، ولكن جرى إدخال تعديلات مسودة القانون في اللجنة البرلمانية أبرزها كتابة شعارات "التدخين مضر بالصحة" على علب الدخان.
ورغم أن مشروع القانون تم التصويت عليه في البرلمان نهاية عام 1990 إلا أنه بقي بحاجة إلى موافقة الرئيس التركي لكي يدخل حجز التنفيذ، إلا أن الرئيس آنذاك "تورغوت أوزال" رفضه رسمياً عام 1991 مبرراً ذلك بالخشية من الصدام بين قوات الأمن والمواطنين، وأسباب أخرى تتعلق بالآثار السلبية على الاقتصاد وشركات الدعاية والمستثمرين الأجانب، وهو ما يوضح الصعوبات الكبرى التي واجهتها الحرب التركية على التدخين في تلك الفترة.
وبعد 5 سنوات على هذا الفشل، تم تشريع أول قانون عام اعتبر الأهم والأوسع لمكافحة التدخين عام 1996 ونص القانون الذي حمل رقم (4207) على حظر التدخين في الأماكن العامة المغلفة والمفتوحة ووسائل النقل العام وحظر بيع الدخان لمن هم أقل من 18 عاماً، وبدأت الجهات الرسمية التنفيذية بمراقبة تطبيق هذا القانون.
وفي خطوة لا تقل أهمية، تزايد نشاط وأهمية منظمات المجتمع المدني التي أعطت زخماً مهماً للحرب على التدخين، وتمكنت عدد من المنظمات الكبرى من الضغط على هيئة الإذاعة والتلفزيون من أجل منع المشاهد التي تشجع التدخين في محطات التلفزة التركية وبالفعل بدأ تطبيق عقوبات مالية على مسلسلات مشهورة بسبب بثها مشاهد للتدخين ومنها مسلسل "وادي الذئاب".
عهد العدالة والتنمية
كان وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002 وتولي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لرئاسة الوزراء آنذاك (عام 2003) بمثابة نقطة التحول الأكبر في تاريخ الحرب على التدخين في البلاد، وبدأت صفحة جديدة من الإجراءات الإدارية والقانونية والحملات الشعبية والاجتماعية لمكافحة التدخين وجرى تسجيل نتائج غير مسبوقة في هذا الإطار.
وعام 2007 قال أردوغان في خطاب له: "محاربتنا للتدخين لا تقل أهمية عن محاربتنا للإرهاب، ستبقى على رأس أولوياتنا بشكل دائم، لأن التدخين يقتل مستقبلنا، عدد من نفقدهم بسبب التدخين أضعاف من فقدناهم بسبب الإرهاب".
وبينما تم في عام 2008 حظر التدخين في مراكز التسوق وأماكن العمل وبما يشمل كافة الأماكن المغلقة، تم في عام 2009 حظر التدخين في المطاعم والمقاهي، وصدرت دراسات في تلك الفترة تشير إلى تراجع التدخين بنسبة 5٪.
وفي عام 2013 تم توسيع تعريف
الأماكن التي يحظر فيها التدخين لتشمل أماكن الترفيه، وسائقي وسائل النقل العام،
وسائقي التاكسي وحتى السيارات الخاصة، والأماكن التعليمية الخاصة والأماكن
الثقافية، وغيرها.
وفي عام 2018 تم إضافة مواد جديدة إلى قانون محاربة التدخين تم بموجبها حظر إظهار صور الدخان أو الدعاية له في التلفزيون والسينما والمسارح والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، كما تم حظر بيع الدخان في الأماكن التعليمية والصحية والثقافية والرياضية، ومنع تقديم النرجيله لمن هم دون الـ18 عاماً.
وخلال الأشهر الأخيرة كثفت الجهات التنفيذية في تركيا حملات التفتيش وفرض الغرامات المالية على السائقين المدخنين في سياراتهم الخاصة، فيما وعد أردوغان بتوسيع الحظر ليشمل كافة الركاب حتى في السيارات الخاصة، فيما من المقرر أن يبدأ بداية العام المقبل تطبيق تعديل ينص على توحيد علب السجائر وبيعها من رفوف مغلقة بدون عرض، كما سيتم نشر مزيد من الصور والنصوص على توضح الآثار السلبية للتدخين على مساحة 85٪ من علبة الدخان، وفرض غرامات باهظة جداً على المخالفين.
ومؤخراً ألغت السلطات التركية فعالية لشركة أمريكية كانت تهدف لتسويق منتجاتها من السجائر الإلكترونية بشكل أفضل، الأمر الذي أشادت به منظمة الصحة العالمية، ولاحقاً أعلن أردوغان رفضه السماح لشركات السجائر الإلكترونية بتصنيع منتجاتها في تركيا، معتبراً أن شركات التبع "تزيد ثراءً من خلال تسميم الناس".
والقانون التركي الحالي الذي ينص علىجعل الأماكن المغلقة خالية من التدخين بنسبة 100%، بما فيها قطاع الضيافة والسياحة هو واحدا من أكثر قوانين مكافحة التبغ صرامة في العالم، بالتوازي مع دول مثل إيرلندا وبريطانيا.
الخط الساخن: ألو 171
لم تتوقف جهود الحكومة التركية في محاربة التدخين على القوانين وفرض الغرامات، وإنما أنشئت مركزاً متخصصاً لمساعدة المواطنين على ترك التدخين وتقديم الدعم المعلوماتي والتوعوي والصحي عبر مركز "ألو 171" الذي يتصل فيه يومياً أكثر من 4 آلاف مواطن من أجل طلب المساعدة على ترك التدخين، حيث تشير إحصائيات رسمية إلى أن 20٪ من الأشخاص الذين اتصلوا بالمكتب نجحوا بالفعل في ترك التدخين.
وبدأ المركز خدمته
للمواطنين منذ عام 2010، حيث يعمل الخط على مدار 24 ساعة ولمدة 7 أيام أسبوعياً،
وفور الاتصال يرد على المتصل مجيب آلي يهنئه على اتخاذ قرار الإقلاع عن التدخين ثم
يتم ربط الموظف الذي يقوم بتوجيه المتصل إلى أقرب عيادة من بين 532 عيادة منتشرة
في عموم تركيا مخصصة لهذا الأمر، حيث وصل الخط منذ إطلاقه وحتى اليوم أكثر من 27
مليون اتصال، فيما زار العيادات 2 مليون 670 ألف مراجع حتى اليوم.
وتعمل العيادات ضمن
خطة احترافية تقوم على قياس مستوى النيكوتين في جسم المدخن ومستوى الإدمان الذي
وصل إليه المدخن وبناء على النتائج يقوم خبراء مختصون بوضع خطة متكاملة يمكنها
مساعدة المدخن على ترك التدخين ويقومون بمتابعة حالته على مدار أشهر طويلة وتقديم
كافة الدعم اللازم له، بدون دفع أي مقابل مالي.
وإلى جانب الخط التلفوني والعيادات، دخل الموقع الإلكتروني للحملة الخدمة عام 2016، وزاره حتى اليوم قرابة 4.5 مليون شخص، حيث يقدم معلومات كاملة حول ترك التدخين وآثاره السلبية وآليات لحساب مدى قدرة الشخص على ترك التدخين، والتكاليف المالية الإجمالية للاستمرار في التدخين، وغيرها من الخدمات.
وإلى جانب النجاحات التي حققها هذا البرنامج تشير الكثير من الإحصائيات المحلية والدولية إلى أن الحرب على التدخين نجحت في مراحل مختلفة من تقليص نسبة المدخنين بشكل عام، والأطفال والمراهقين بشكل خاص، كما نجحت الحملات في اقناع مئات آلاف المدخنين من تركه طوال العقود الماضية، إلى جانب تقليل نسبة الأمراض الناجمة عن التدخين.
وفي ظل صعوبة الحصول على إحصائيات دقيقة حول أعداد المدخنين ومدى نجاح هذه الحملات بشكل دقيق، إلا أن الثابت الواضح أن هذه الحملات نجحت في أن تتحول من قوانين وإجراءات إلى ثقافة عامة لدى شعب أعادة تنظيم أماكن التدخين، وبات اليوم من سابع المستحيلات رؤية مدخن في دائرة رسمية أو مكان مغلق أو مرافق عامة أو وسائل مواصلات، وعقب النجاح الكبير في تقليص آثار التدخين السلبي على المحيطين، يتوقع أن تؤدي الحملات ضد المدخنين المباشرين خلال السنوات المقبلة نتائج أكبر لإنقاذهم من هذا الخطر الذي وصفه الرئيس التركي بأنه لا يقل خطورة عن "الإرهاب".